الفستان الذي قتل صاحبته

• بنت شابة تضجّ بالحيوية، ويمتلئ قلبها بحب الحياة، وفي الحادية والعشرين من ربيع عمرها كانت أمنيتها الأولى “فستاناً”، مجرّد فستان قطني لتظهر وتتباهى به أمام الأصدقاء والجيران. وكانت تقف كل يوم أمام واجهة متجر الفساتين، وتدعو الله: “يارب .. حلمي الكبير يكمن في هذا الفستان فارزقني إياه”. وفي يوم من الأيام رُزقت هذا الفستان لتصبح واحدة من أسعد الناس على وجه الأرض، وتزداد حيويّتها يوماً بعد يوم. وكانت تحرص على ارتدائه كل يوم، وتشعر بأن جمالها يزاداد تألقاً بمضيّ الوقت بفضل ارتدائها هذا الفستان.

ومضت الشهور والسنوات، إلى أن تجاوزت السادسة والعشرين من عمرها. وفي أحد أيام الصيف قابلت رجلاً من أثرياء القوم، صاحب جاهٍ وسلطة، وقال لها: “أنتِ أجمل بمئة مرّة من هذا الفستان الرخيص الذي تحرصين على ارتدائه كل يوم. ولا أفهم كيف تشعرين بالسعادة وأنتِ ترتدين الفستان القطني نفسه كل يوم، وأنت أمامك كل الفرص إذا ما تزوّجنا، فرصة لا تعوّض تجعلك تملكين الفساتين من كل نوع ولون، لكن بشرط أن تتركي مدينتك، وأصدقاءك وأقاربك، وتنتقلي معي إلى عالمي، حيث يصبح لديك أصدقاء وأقارب جدد في مدينة هي أكثر تمدّناً وحضارة وغنىً من القرية التي تعيشين فيها”.

فكّرت البنت مليّاً في هذا العرض السخيّ، انطلاقاً من واقع حبّها الكبير للحياة وطموحها الذي لا حدود له، وعشقها الجنوني للفساتين، فوافقت على هذا العرض الفريد من نوعه، الذي قد لا يتكرّر في حياتها المقبلة حين تنتقل إلى “مدينة الأحلام” التي انتقلت إليها ودخلتها بالفعل مع العريس المدهش، الذي اشترى لها مئات الفساتين الثمينة. ومضت الأيام، لتكتشف أن هذه المدينة التي انتقلت إليها ليس فيها أصدقاء ولا أقارب، لترتدي أمامهم كل يوم الفستان الذي تختاره من بين مئات الفساتين وهي سعيدة؛ فالمدينة فيها أشخاص يتصرّفون كالأصدقاء في الظاهر، لكنهم في الواقع أعداء فيما بينهم، وكل واحد فيهم يكره الآخر وتشتدّ كراهيتهم لبعضهم كل يوم، ففي هذه المدينة لا حياة، ولا حب، ولا صداقة، لا شيء سوى الفساتين والملابس الباهظة الثمن التي ترتديها هي، وكل من في هذه المدينة يسترون ما بداخلهم من مشاعر حاقدة، فبدأت حيوية الزوجة الشابة تقلّ وتتلاشى بمضي الأيام. واختفى حبّها لنفسها وللحياة، وبدأت ترى كل شيء في هذه المدينة على حقيقته من دون الغطاء الخارجي، لتفاجأ بأنها جاءت إلى هذه المدينة بحثاً عن إشباع رغبتها في ارتداء كل أنواع الفساتين التي كانت تحلم بارتدائها لتكتمل سعادتها، لكن الفساتين أصبحت مع مضي الوقت تسلب منها كل شعور بالسعادة والرضى والفرح العارم حين ترتديها وسط أهلها وأصدقائها.

ومع ازدياد شعورها بالتعاسة، صارحت زوجها صاحب المال والجاه والسلطة، وقالت له: “أريد العودة إلى مدينتي لأعيش وسط أهلي وأصدقائي الذين يشبهونني، فأنا لست سعيدة هنا وسط هؤلاء الناس، فما قيمة الفساتين الباهظة الثمن إذا كان من يرتديها قبيحاً يرتدي الملابس الثمينة ليستر قبحه، لا لكي يجمّل نفسه من الداخل والخارج؟”. فقال لها: “أتريدين الخروج من مدينة الأحلام والجنة التي أدخلتك فيها بفستان قطني رخيص كنتِ ترتدينه كل يوم؟” فأيقنت البنت أنها كانت مخطئة، وأن السعادة الحقيقية تكمن في نوعية الناس المحيطين بها، وفي القرية الصغيرة والبسيطة التي كانت تعيش فيها، وفي الصدق الذي يظهر واضحاً في عيون الناس، ومدى حبّهم وتمسّكهم بها، ومع ذلك تخلت عن الناس الذين كانوا يشبهونها لتلتحق بمدينة بلا روح من أجل ارتداء وتغيير الفساتين الجديدة والغالية الثمن. كما أدركت أن السعادة ليست في المال والجاه، وإنما في الحياة مع أحب الناس الذين يشبهونها.

وليست السعادة في العيش في مدينة تشعر فيها بالغربة، حتى إن توفّرت لها كل مباهج الحياة المادية في “مدينة الأحلام”، التي لم تتردّد في مغادرتها تاركةً وراءها كل الفساتين الثمينة، لتعود إلى ارتداء فستانها القطني القديم. ولكن هل مازال الفستان موجوداً؟ لا تعرف.. لكنها ستحاول الرجوع إليه، وإذا لم تجده فهي على الأقل هربت من مدينة “الأوهام”، وتركت لسكانها رسالة تقول: “لقد تركت فستاناً قديماً كنت أغلى منه وأجمل، لأشتري فستاناً غالياً أشعر بأنني أرخص منه”!

بقلم عبد الكريم بيروتي
كلام نسوان

بواسطة راديو بيتنا

صوت المهاجر العربي من راديو بيتنا تأسس عام 2010 ويتخذ من مدينة وندسور بمقاطعة أونتاريو مركزاً له. ويُعنى بالشأن الفني والاجتماعي والاقتصادي في كندا والولايات المتحدة الأمريكية.