صراع المستعمر والأرض

• يقدم فيلم The Revenant “العائد” معالجة سينمائية جديدة لقضايا استهلكتها هوليود وشوهتها . ويقدم الفيلم طرحا مثيرا للإهتمام حول صدام الإستعمار الغربي مع ابناء القارة الأميركية الأصليين والذين اطلق عليهم الإستعمار الأوروبي خطأ اسم الهنود الحمر، وكرست هوليود صورتهم كهمج يسرقون القطارات لا كاصحاب أرض يقاومون الإستعمار الغربي. حبكة الفيلم تعالج صراعات على مستويات مختلفة سنستعرض أبرزها باختصار.

• الصراع مع الطبيعة
ليست الطبيعة في الفيلم مجرد مسرحا للأحداث، بل هي شخصية اساسية نقف مذهولين امام قسوتها وجمالها، في مشهدية ساحرة برع مدير التصوير في التقاط عظمة هذه الأرض البكر التي تبدو فعلا خارج الزمان مما أعطى بعدا بدائيا وأسطوريا لرحلة البطل هيو غلاس – أدى دوره ليوناردو ديكابريو- للإنتقام من قاتل ابنه .

وقف غلاس ورفاقه من صيادي الفراء امام الطبيعة في مواجهة قاسية وظروف مناخية لا ترحم هؤلاء الغرباء الأوروبيين الذين أتوا لاستغلال خيرات الأرض ونهب ثرواتها . ويمكن قراءة هجوم الدبة على غلاس ضمن هذا السياق. الدبة التي تعيش في هذه الغابة العذراء تهاجم هذا الصياد الأبيض الغريب الذي يهدد صغيريها وتموت دفاعا عنهما. وكم يبدو غلاس ضئيلا وعاجزا أمام عظمة الأماكن التي يعبر بها ويتحمل مشاقها للوصول إلى خلاصه الذاتي !

بالمقابل نرى كيف يعيش السكان الأصليون بانسجام مع الطبيعة ، ويقدم صياد من قبيلة هندية العون لغلاس الجريح و يقوم ببناء خيمة له رغم الظروف العاصفة التي تحيط به، فهو ابن هذه الطبيعة وابن الأرض ولا انفصال بينهما، ويتردد في بال غلاس مقولة أن الشجرة الضارب جذورها في الأرض لا تقتلعها العواصف.

image298• الصراع مع الانسان
هناك أيضا الصراع مع الآخر المختلف والمتمثل بقبائل ” الهنود الحمر ” والصراع مع المستعمر الغربي المماثل له ظاهريا والمتمثل بجون فيتزيجراد (أدى دوره ببراعة الممثل توم هاردي).

بداية الفيلم تشبه بداية أي فيلم أميركي تقليدي عن رعاة البقر والهنود الحمر الذين صُوروا تاريخيا كهمج متوحشين. فشركة صيد الفراء التي يعمل غلاس دليلا لها تتعرض لهجوم مباغت تخسر فيه صيدها الثمين وعددًا كبيرًا من رجالها ولولا ذكاء غلاس ومعرفته بطبيعة الأرض لقضى على الفريق بأكمله. لكن بعد تأمل في تداعيات الهجوم يتضح لنا أن الهمجي الفعلي هو الرجل الأبيض الذي جاء لينهب ثروات الأرض وخيراتها ويطرد سكانها بالقوة عبر الإبادة العرقية . ويلخص حوار زعيم القبيلة مع التاجر الفرنسي قضية السكان الأصليين . فعندما يطالبه الفرنسي باحترام العهد يرد الزعيم متسائلا عن أي عهد يتحدث وقد أخذ المستعمر الأبيض كل شيء من أهل البلاد ، بل واختطف ابنة الزعيم أيضا ، فاغتصاب الأرض مجازيا تكرس في الإغتصاب الفعلي لابنة الزعيم وما يعنيه ذلك من مهانة وتدنيس.

image322يبدو غلاس الذي عاشر السكان الأصليين وأحب واحدة منهم مرغما على الهرب من المواجهة معهم، ويساعد ابنة الزعيم على الهرب مما يشير إلى احترامه لما يمثلونه. ولعل المشهد الأخير حين يعفو زعيم القبيلة عنه يقترح حلا للصراع بين الغريب الأوروبي وأهل الأرض. لا بد من التعايش واحترام الآخر للخروج من دوامة العنف التي لا تنتهي. ولهذا السبب يبتعد صراع غلاس مع فيتزجيرالد من قصة الانتقام التقليدية. صحيح ان فيتزجيرالد قتل ابنه، لكن الصراع معه بدأ قبل تلك الحادثة بكثير.

غلاس يرمز للغريب الأوروبي الذي يحاول الاندماج مع الأرض الأميركية، وهو يتأرجح بين عالمين متناقضين من القيم والأهداف. هو أوروبي عاش على هذه الأرض ونشأ بين سكانها الأصليين، فعرف لغتهم وعاداتهم حتى تزوج من إحدى نسائهم، واضطُر إلى قتل ضابط أبيض حاول قتل ابنه وتسبب في مجزرة قُتلت فيها زوجته. ويبدو مشهد خروج العصفور من جرح الرصاصة في صدرها سرياليا يذكرنا بصورة مشابهة في فيلم ” الجبل المقدس” Holy Mountain للمخرج الاسباني اليخاندرو خودوروسكي.

المهم أن انتماء غلاس للسكان الأصليين وقيمهم يضعه في مواجهة منذ اللحظات الأولى مع فيتزجيرالد. فيتزجيرالد هو المستعمر الأوروبي بكل ماديته وعنفه . يكره السكان الأصليين ويسميهم زنوج الشجر في إشارة واضحة لعنصريته تجاه كل من هو مختلف عنه. هو الرجل الأبيض المادي الذي أتى ليسرق خيرات الأرض مدفوعا بمصالحه الشخصية وإن كان يتوهم أن الرب يقود تصرفاته ويباركها ، ويبرر فيتزجيرالد لمرافقه الشاب أن الرب أراد منه أن يترك غلاس ليلقى حتفه. فيتزجيرالد لا يتورع عن قتل زملائه وسرقة مال الشركة طالما أن ذلك يحقق مصلحته الشخصية.

ويأتي النزال الأخير بين غلاس و فيتزجيرالد وحشيا دمويا لا يقل في شراسته عن مواجهة الدبة. فالصراع مع الطبيعة والصراع مع الإنسان وجهان لرغبة البقاء . والشخصيتان المتنافرتان لا تقلان قسوة عن عوامل الطبيعة.

• البحث عن الإيمان
هناك رحلة ايمان يمر بها البطل غلاس تحمل تحولا جسديا ونفسيا لا يخلو من رمزية دينية مسيحية قدمت بلغة بصرية ناضجة غنية بالدلالات. فهناك صورة غلاس الذي يموت ( تقريبا) ويقوم فعليا من قبره بعد أن يدفن وهو على قيد الحياة ثم يزحف من باطن الأرض مثخنا بجراحه ومحملا بهدف جديد وهو الإنتقام من قاتل ابنه. وبصورة مشابهة نرى خروجه عاريا مغطى بالدماء من جوف الحصان الذي احتمى داخله من العاصفة، ليذكرنا بخروج الجنين من رحم امه. وفي حلم غلاس بابنه الميت نجد أن لقاء الاب والابن داخل كنيسة مهدمة وفي خلفية اللقاء صورة للمسيح.

وفي النهاية يصل غلاس إلى قناعة هي أن الإنتقام ليس بيد البشر بل هو بيد الله وحده ، هذا التجلي في الصراع الأخير وقد سقط عدوه فيتزجيرالد بين يديه، يجعلنا ندرك عمق التحول الروحي الذي مر به غلاس وجعله ينجو، في حين يظل فيتزجيرالد حتى اللحظات الأخيرة قبل موته متغطرسا رافضا التوبة عما فعل، وبالتالي عاجزا عن الحصول على الخلاص الروحي للتكفير عن ذنوبه.

بواسطة جمال قبطان

كاتب لبناني متخصص في الشؤون السينمائية والنقد الفني