قصة مهاجر الى كندا

• نعيد نشر هذه القصة عن مصدرها الأصلي أدناه لما تحمله من مقاصد نبيلة أراد الكاتب من خلالها أن يبين حالة أو عدة حالات ربما وواجها كثيرون من المهاجرين الجدد إلى كندا. لامسنا فيها صدق مشاعر الكاتب وهو يسرد تجربته ومعاناته وأردنا أن تكون “بارقة أمل” لكل مهاجر جديد ترك أرض الوطن بحثاً عن ذاته في عالم جديد.

عندما يذوب الجليد
تجربتي في رحلة الهجرة الى كندا

‎‫• ترددت كثيرا قبل ان اتحدث عن تجربتي الشخصيه في الهجره الى كندا ! ليس لشيء الا لاقتناعي ان هناك الكثيرين من هم أولى بسرد تجربتهم الحياتية التي ربما تكون أعمق من تجربتي وأكثر افادة. ‎‫لكن بقي داخلي ذلك الصوت الذي يناديني ويدفعني منذ خمس سنوات ان احكي عن نفسي. شيء ما يعود كل ليلة ويزورني قبل ان اغمض عيناي ويقول … لم لا ؟! هناك من هم بحاجة حتى ولو لكلمة .. لموقف حياتي .. لبسمة ! ‎‫فقررت الليلة قبل نومي ان أحدثكم عن كندا التي عشتها وأعيشها …‬

‎‫وصلت الى كندا في ليلة شتوية باردة جدا. حملتني طائرة عملاقة عبرت بي آلاف الاميال. كنت كلّما مرت ساعة علي في تلك الطائرة احملق من نافذتها وأقول لنفسي “ماذا تفعل!” هل جننت؟ عشر سنوات قضيتها في دول الخليج العربي تدرجت فيها سريعا بين درجات السلم الوظيفي لاحد الشركات الخاصة حتى وصلت فيها الى وظيفة مرموقة أستطيع أن أصفها بأنها مخملية حقا ! عشت مع اسرتي الصغيرة مرفها خلال تلك السنوات لدرجة قد تكون بغيضة أحيانا. ولكنه حال الكثيرين ممن عاشوا ويعيشون هناك … لم يكن يشغل بالي أمر المال أو العمل أو أي شيء آخر … ولكنه وفي داخلي كان ينقصني شيء ابحث عنه دوما … في وجوه الناس وفي الشوارع والمنازل … شيء كان يشعرني دوما بانني يجب ان أغير من حياتي … ولطالما صرخت طاردا هذه الفكرة عن رأسي قائلا … قل الحمد لله وكفى انت في نعمة عظيمة.‬

‎‫ثم كان ان استخرت الله في فجر يوم جمعة … وسألته أن ييسر لي الطريق الى كندا ان كان خيرا لي .. واصدقكم القول كنت أفكر وأنا أدعو وأقول ..أي خير أن تترك كل هذا ! أنت مجنون … ولكني كنت احدث نفسي طيلة ثلاث سنوات واقول لها (هناك شيء اشعر ان الله يريدني ان اقوم به ولكنني لا اعلمه ! ‬كنت احمل اوراق (اللاندينج) ولكنني كنت مترددا جدا في أن اقدم على هذه الخطوة !

‎‫وقد كان ان ذهبت الى عملي صبيحة يوم من الايام وبعد استخارتي لله وبهدوء شديد وفجائي ومذهل تقدمت باستقالتي وانهيت كل اوراقي في ايام قليلة وسط ذهول زملائي واهلي واقاربي وترحيبا من زوجتي التي وقفت معي منذ اول يوم .‬
لا ادعي انني فعلت ذلك بدون ادنى تخطيط فقد خططت لذلك وزوجتي شهورا ! ولكنني احاول ان اختصر الكلمات حتى لاتطول.

‎‫اتذكر اول ليلة لنا في تورنتو … شقة تطل على الداون تاون .. وبرغم ضجيج الشارع والناس .. وبدل ان نخرج للشارع مثلا لاكتشاف المدينه والنزهة .. تقوقعنا انا وزوجتي وبنتي وابني في سرير واحد نرتعد احساساً غريباً وعميقاً بالغربة والوحشة والخوف.. كنا نحتضن بعضا ليس من البرد ولكنه كان محاولة لان نبث في نفوسنا الطمأنينة ونتبادل القوة ونقتسم راحة الروح !‬

‎‫مرت الايام وبدأنا أنا وزوجتي رحلة البحث عن العمل … خاصة اننا كنا ننفق من مدخراتنا بشكل كبير! وكان ان وقعنا في اول المصاعب وهوه اشتراط كل صاحب عمل ان تكون حاصلا على خبرة عمل في كندا! كيف بالله عليكم ولم يمض علينا في هذه البلد اكثر من 3 شهور! ولكننا لم نيأس وطرقنا كل الابواب وطورنا في طريقة بحثنا عن عمل … ولكننا كنا نعود في اخر كل يوم بخفي حنين!‬

‎‫اتذكر ليلة باردة غطى فيها الثلج كل شيء وكانت درجة الحرارة ما يقارب الثلاثين تحت الصفر .. ليلة تعاظمت فيها همومي وافكاري فخرجت هائماً على وجهي امشي في ثلوج تصل الى ركبتي ! دقائق ووجدت نفسي ابكي بحرقة وأحدث نفسي قائلا ماذا فعلت ! ما الحل ! كيف أجد الطريق! .. كانت دموعي تتحجر فور خروجها من عيني من برودة الجو! فكان ذلك يزيدني بكاء واخذت أجري في الثلوج وفي جوف الليل بلا أي هدف … واذكر جيدا سائقي السيارات وهم يحملقون في هذا المجنون الذي يمشي في هكذا ظروف !‬

‎‫ليال وأيام عديد’ الوم نفسي على القرار بالمجيء حيناً وأعزي نفسي وأشحذ همتها حيناً آخر … وكان أول الامل .. وأول العمل …وجدت عملا لخبرتي الطبيه .. وعملت كمساعد طبيب بيطري ! وعملت في مستشفى صغير مع طبيب يمتلكها ..كنت أقوم بكل شيء في المستشفى … من الاهتمام بالحيوانات الى تحضيرها للعمليات الى اطعامها الى تغسيلها بعد الموت ! كانت هي المر’ الاولى التي اقوم فيها بكل هذا ! ولكنني عملت عمري كله في المبيعات والتسويق بعيدا عن مهنتي! ثم كان أن طلب مني الطبيب هناك ان أنظف الحمامات والارض وزجاج المستشفى .. صعقت حينها ربما لاننا من خلفية ثقافية تحقر أحيانا من المهن البسيطة وتعتبرها إهانة … حينها شعرت بألم نفسي كبير ولكنني تحاملت عليه وحدثت نفسي أن لاعيب في العمل .. أي عمل ، وأن الدنيا هذا حالها يوم هنا ويوم هناك ، وأن أنبياء الله أشرف الخلق كانوا يرعون الاغنام ولم يكونوا ملوكاً مرفهين. وتذكرت نجاحات أسماء عظيمة عانت وجاهدت حتى وصلت لما تريد.

وقمت بالعمل فعلا وأصبح من روتين مهامي في المستشفى … كان صاحب المستشفى انسان سليط اللسان غير ودود وعصبي المزاج … ولكنني تحملت حماقاته سنة كاملة لانه ماكان باليد حيلة ! خصوصا وانني كنت قد بدات الدراسة لمعادلة شهادتي الطبية واحتاج الى المال ، حتى جاء يوم وبخني فيه أمام الزبائن بعنف شديد بل أنه قال لي بالحرف الواحد لو انني اسندت العمل لطفل لأداه افضل منك!‬

‎‫لم اتمالك نفسي … رميت السماعه الطبيه على الارض وقلت له كفى! يكفي اهانات … سنة من الاهانات …انا مستقيل والان وفورا .. أصابه الذهول وجرى خلفي محاولاً إقناعي بالعدول عن قراري ولكنني لم أستطع حتى أن أفكر في هذا وغادرت!‬ ‎‫كان الطريق من المستشفى الى البيت طويلاً ومظلماً … وصلت الى المنزل .. دخلت غرفتي … تذكرت حالي القديم وما آل إليه أمري وبكيت ثانية بحرقة شديده ! كنت اشعر بالانكسار والقهر والظلم !‬ ‎‫ثم كان ان تعثرت في اختباراتي للمعادلة ! فامضيت اسبوعاً يسيطر على راسي فكرة ان الله يريدني أن اقوم بشيء ما … شيء ما لا أعلمه … حتى أنني كنت احيانا اتحدث بصوت عالي واقول (يارب كيف لي ان اعرفه !)‬

‎‫أصابني اكتئاب شديد لم يخففه عني الا أن زوجتي كانت قد وجدت عملا في مجالها نوعا ما وكانت سعيدة به …فلم أرد ان اعكر عليها سعادتها .. ولكنني كنت اخرج من بيتي كل يوم احدث نفسي في الشوارع وانظر الى الاشجار واكرر ..لا وربي ليس خطئا! ما استخرت ربي في شيء يضرني … أنا فعلا محطم ويائس وبائس .. لكنني لا اسقط ثقتي في ربي ابداً ! لا اترك ثقتي في نفسي ابدا!‬

‎‫كنت انظر لمن يجرون صباحا الى اعمالهم .. منهم من هم بياقات بيضاء ومنهم عمال ونساء ومراهقين …كنت انظر اليهم بحسرة أن لا أجد لنفسي مكاناً بينهم! وكنت اخشى أن أفقد ثقتي في نفسي … ولكنني كنت كلما اعتراني هذا التفكير دعوت لهم بالتوفيق وانصرفت باحثا في حالي من جديد …‬

‎‫مرت شهور صعبة ومؤلمة حتى وفقني الله ان التحق بعمل آخر في سلسلة متاجر عالمية مشهورة … وكان ان ذهل من قابلوني للوظيفة أنني لا أجد عملاً بهذا المستوى من التفهم للبيزنس .. ثم كان ان عرضوا علي عملا كعامل في قسم الخضروات والفواكه وقالوا ان هذا هو المتاح الان وان المقابل المادي سيكون قليلا جدا ولكنهم يرون أنه سوف يكون مستقبلي لامعا في هذه الشركة …قبلت العمل. كان شاقاً ومتعباً ومرهقاً بحق …عمل كنت ابتدئه الرابعة فجرا كل يوم … كان كثيرا ما يبث في نفسي الاحباط ولاطلما شعرت بوخزات في قلبي تدفعني للفرار وتركه ! ماذا تفعل يا رجل ! اجننت ! انت فعلا مجنون ! أيامك تقضيها في حمل الصناديق وكأنك لم تقرأ حرفاً في حياتك ! عد لصوابك ..يجب ان تفيق !‬ ‎‫ولكن ثقتي في الله لم تتزعزع يوما …أن النصر والفرج قريب …فبذلت كل ما استطيع فعله كل يوم وكل ليلة. كنت أعود من عملي كل يوم لا استطيع ان أمشي الى البيت ! فانا أعاني من القدم المسطحة (فلات فوت) والوقوف الطويل يصبح مؤلما جدا … وكنت اقف يوميأ 8 ساعات وأمشي داخل المتجر ما يوازي 8 كيلومترات يوميا ! فاثر ذلك على ركبتي ومن ثم بشكل بسيط على مفصل الحوض!‬

‎‫اتذكر ألم ظهري وقدمي كان يدفعني ان أتأوه من محطة (السب واي) وحتى منزلي .. فاذا ما وقفت خلف باب شقتي انتصبت واقفا وابتسمت وتحاملت على قدمي حتى لا يراني أطفالي فيشعرون بأي شفقة أو حزن ، ولكنني لم أكن استطع ايقاف تأوهاتي ليلاً والتي كانت تنطلق وانا نائم فتسمعها زوجتي لتخبرني صباحا عنها !‬ ‎‫ثم كان أن قام أحد كبار مسئولي الشركة بزيارة مفاجئة يوم الاحد للمتجر … كان المتجر فوضى عارمة! الا القسم الذي أعمل به فقد كان وكأنه في متجر آخر من النظيم والنظافة وتوفر البضائع ! أصر الرجل على ان يعرف اسمي ثم عرفني بنفسه وشكرني بشدة وقال لي اني ارسل بريداً الكترونيا لأكبر مسئولي الشركة الآن مع بعض الصور للقسم ومع اسمي! لم اصدق ! فقد كنت قبلها بساعات أشعر بضيق وغصة في حلقي فأخذت في الاستغفار حتى رايت ذلك الرجل!‬

‎‫مر شهران بعد هذه الحادثه حين قامت مديرة المتجر بعدها باستدعائي لتخبرني انها تريد ترقيتي لاصبح مسئولا عن القسم ومديرا لفريق من 10 اشخاص! أصابني الذهول ولكنني تمالكت نفسي وتحدثت بما يجب ان يقال بلغة البيزنس في مثل هذه مواقف وقد كان! سنة واحده وانتقلت الى مرحلة أعلى والتي عادة لا يستطيع تخطيها الا من يمكث في موقعه لثلاث سنوات على الاقل … بل أن بعضهم أمضى 10 سنوات قبل ان يتم ترقيته … ولكنها الثقة في الله والثقة في أن غدا أفضل!‬ ‎‫بعدها قررت أن أغير حتى دراستي! و تقدمت للالتحاق باعرق جامعة في البيزنس لدراسة الماجستير لتدعيم عملي مستقبليا وإضافة ميزة شخصية لا تتوافر عند الكثيرين من الزملاء … وكان أن وافقت الجامعه على التحاقي بها …وأصبحت لا أجد ساعات حتى للنوم! ولكنها الحياة … وكفاحها هو أحلى ما فيها.

‎‫بعد شهور أخرى أضافوا اليّ مسئوليات جديدة لاصبح مسئولا عن معظم اقسام الطعام في المتجر … وأصبحت اسماً لامعاً ليس فقط في المتجر الذي اعمل به ولكن لدى معظم من يعملون في المركز الاقليمي للادارة … لا أدعي انني بلغت قمة النجاح. وأعلم ان الطريق مازال طويلاً .. ولكنها خطوة على الدرب وشمس تشرق بعد ليل طويل…

‎‫أجلس اليوم أتذكر كل تلك السنوات العجاف وابتسم …اتذكر آلامي وآهاتي ودموعي …
أتذكر اصراري ودعم عائلتي وزوجتي …
أتذكر خوفي كلما كانت مدخراتي تتناقص حتى قاربت على الانتهاء …‬
أتذكر بعدي عن عائلتي الكبيرة وكم هو صعباَ أن اراهم من حين الى اخر …
أتذكر حيرتي وانا ضائع في محطات المترو والقطار والحافلات …‬
‎‫أتذكر ثلوجا ضربت وجهي ووجنتي بقوة ولكنها كانت تمسح على روحي ببياضها وتقول لي ..لا تحزن ..ان مع العسر يسرا. ‬
‎‫أتذكر زميلا لي اسمه ايمن عارضني بشده يوم استقلت وقررت الهجرة فلما قلت له لقد استخرت الله قال لي .. توكل على الله.‬
‎‫أتذكر من تساقطوا ممن حسبتهم أصدقاء وأتذكر من كانوا كالاخوان وأنا لم اعرفهم يوما !‬
‎‫أتذكر انني لم أر أخوي منذ ستة سنوات وكم أن هذا شاق ومؤلم …‬
‎‫أتذكر ان الله وعدني ان يسهل امري …وكان ان استعجلت الامر وضجرت ..فكان لي طبيبا !‬
‎‫أتذكر كيف كانت تصلني أخبار زملائي القدامى وارتقائهم لمناصب عليا وكنت كلما نغزتني فكرة أن أتحسر على حالي لما كنت عليه قبلهم بسنوات طردتُ الفكرة ودعوت الله لهم بالتوفيق حتى والله انني أذكر أنه كانت لي دعوة بظهر الغيب كل يوم لاحدهم !‬
‎‫أتذكر انني أخطو بهذا (اول) خطواتي في هذا البلد ! بعد سنوات صعبة … ولكنني أحمد الله أن كتب لي خطوة اولى ‎‫ليست الاخيرة ولن تكون النهاية فالخير قادم وإن تأخر .. وان استبطئته .. فقط لاتياس !

أصدقائي وأخواني المهاجرين الجدد …لا تيأس …لا تيأس .. حاول كل يوم وكل ليلة .. حاول ألف مرة ومرة .. أطرق كل باب .. الفرج على بعد خطوات من ناظريك … ثق في نفسك .. ثق في الله والله الذي لا اله الا هو لن يخذلك ابداً …‬ صدّق قلبك! هو ليس شعرا ولانثرا ! صدق قلبك… لا تتراجع تحت ضغط الالم والمحنة فلربما كان نجاحك على بعد خطوات … ‎‫ولتعلم انه ليس عيبا ان تضعف وان تبكي وان تبتأس وان تشك … لانك انسان، فاطلق لروحك حريتها وعاود وسليها وخفف عنها وعدها بالنصر وبالفرج وبالخير.

‎‫هذه رسالتي اليكم ما قصدت بها الا شيئين … اولهما ان أعزي نفسي في احتمالي كل تلك الصعاب وان أمسح على روحي قائلاً لا تحزن علّها تبث طاقة جديدة في نفسي تعينني على الاكمال … وثانيهما وهو الاهم ان أترك بارقة أمل ونور لكل من يعاني الآن فلعل كلماتي تحمله الى عالم الامل والاصرار والكفاح وتسليه ولو قليلا عما يلقى …‬ ‎‫وفقكم الله جميعا ورجاء حاراً واخوياً وصادقاً ان تدعو لي بالتوفيق والسداد وأن يكون الله لي دائماً مؤيدا ونصيراً ، والاهم أن يرزقكم ويرزقني الصحة والستر حتى نلقاه.

بقلم إيهاب عبده

المصدر: اضغط هنا

بواسطة راديو بيتنا

صوت المهاجر العربي من راديو بيتنا تأسس عام 2010 ويتخذ من مدينة وندسور بمقاطعة أونتاريو مركزاً له. ويُعنى بالشأن الفني والاجتماعي والاقتصادي في كندا والولايات المتحدة الأمريكية.