صديقي المغامر

• ما الحكاية التي رواها لي صديقي المغامر في الصف السادس الابتدائي ، ودفعتني للبحث عنه بعد فراق دام نحو عشر سنوات ، وما علاقة مكوك الفضاء تشالينجر بالقصة؟

دق جرس الفسحةمعلناً خروج الطلاب من الفصول الدراسية في منتصف النهار لأخذ استراحة الغداء اليومية. نزلنا ركضاً من فصولنا كسيول متدفقة تجمعت وسط حوش المدرسة“. جلست على رصيف حجري أستظل تحت أغصان شجرة لتناول غدائي منتظراً وصول أحد من زملائي. مرّت لحظات حتى أتى صديقي المغامر زميلي منذ الصف الأول الإبتدائي وجلس بجواري. فتح حقيبته وأخرج منها سندويشاً كان مغلفاً بكيس من النايلون ، ثم فتح غطاء زمزميته المرتبط بسلسلة معدنية بالزمزمية ذات اللونين البرتقالي والأخضر الفستقي. تناول منها شربة ماء أولاً ثم أعاد إحكام غطاء الزمزمية وبدأنا نأكل طعامنا. أخذ قضمه من سندويشه ومضغها فسألته ، ماذا فعلت أمس عندما عدت إلى البيت؟ نظر إليّ وعدّل جلسته استعداداً لرواية حكاية جديدة من مغامراته التي كان يغلب عليها طابع الخيال العلمي وتستهويني كثيراً، لكن القصة التي كان على وشك أن يرويها لي في ذلك اليوم كان لها مذاقاً مختلفاً وذات وقع خاص عليّ.

قال صديقي المغامر وهو يمضغ طعامه: أمس انتهيت من اختراع استطعت الوصول به إلى القمر. فقد صنعت جهازاً عجيباً يعمل مئة في المئة ، ومكّون من عدة أجزاء دقيقة الصنع مرتبطة بدوائر كهربائية وإلكترونية تتحكم فيه. أضاف صديقي المغامر وقد استحوذ كلامه في هذه اللحظات على كامل انتباهي حتى لم يعد لضوضاء التلاميذ وصراخهم في حوش المدرسة أي أثر عليّ. تابع صديقي المغامر يقول: المكوّن الأساسي هو كابل أو سلك شديد القوة ينفرد بشكل متتابع ليصبح غير قابل للطي بعد مرور التيار الكهربائي فيه ، ما أن يغادر منصة الإطلاق ، حتى يصل طوله إلى أميال قادرة على اختراق الغلاف الجوي للأرض وصولاً للقمر. ثم أكمل يقول: ارتديت سترة خاصة يتم تثبيت ذلك الكابل فيها ، وحملت في يدي وحدة التحكم بمنصة الإطلاق. ثم قمت بوضع المنصة على طرف شرفة منزلي ووجهتها نحو القمر. بدأت العد التنازلي ثم ضغطت على زر الإطلاق , فأقلعت نحو الفضاء بسرعة خيالية. نجحت التجربة ووصلت إلى القمر ثم عدت إلى شرفة منزلي مرة أخرى على كوكب الأرض دون أن يصيبني مكروه ، ودون أن يعرف أحد من أهلي ما فعلت كيلا أقع في مأزق.

في ذلك اليوم عدتُ إلى المنزل وحكاية صديقي المغامر لا تزال في ذهني وقد صدقتها في حينه ، لاسيما وأن والدتي كانت تخبرني بقصص حول رؤية أشياء لامعة تظهر وتختفي بسرعة البرق في سماء الليل ، أشياء يعتقد البعض أنها صحون طائرة ، والبعض الآخر يصنفها على أنها مجرد ظواهر طبيعية. لكنني وكأي طفل صغير له مخيلة خصبة كنت آخذ كلام أمي على محمل الجد ، وهي التي كانت قد نفت أن يكون ما رأته في كبد السماء وفي أكثر من مناسبة هي شُهب أو نيازك.

في صباح اليوم التالي نهضتُ باكراً من النوم كالمعتاد استعداداً للذهاب إلى المدرسة. ارتديت الزي المدرسي ، بنطلون رمادي اللون وقميص أبيض وبلوفر كحلي ، ثم حملت حقيبتي الجلدية بعد أن رتبت فيها دفاتري وكتبي حسب جدول اليوم الدراسي ، ونزلت من البيت انتظر قدوم باص المدرسة عند ناصية الشارع. وصل الباص في موعده ، فصعدت وبحثت عن مقعد بجوار النافذة على الجهة اليمنى. بعد نحو خمس دقائق توقف الباص أمام منزل صديقي المغامر. رأيته يخرج من مبنى عريض ذي باحة مغطاة بالبلاط على جانبيها أحواض مزروعة بأشجار قصيرة. قبل أن يصعد صديقي المغامر إلى باص المدرسة التفت بنظري إلى المبنى الذي يسكنه مرة أخرى وقد بدا شديد اللمعان لانعكاس ضوء أشعة شمس الصباح على نوافذه الزجاجية. ناديت على صديقي المغامر ليجلس بجواري ، وسألته على الفور: أين الشرفة التي طرت منها إلى القمر؟ أشار لي بإصبعه ، وقال تلك الشرفة الأولى من جهة اليمين في الطابق الأول. ظلّت صورة العمارة السكنية تلك مطبوعة في ذهني ، وخصوصاً الشرفة ببابها الخشبي الأخضر. وصلنا إلى المدرسة قبل موعد دخول الفصول ، وما كانت إلا دقائق حتى قرع جرس الصباح فتجمعنا في طوابير كالمعتاد. ألقينا النشيد الوطني وحيينا العلم وقمنا ببعض التمارين الرياضية ، ثم تحرك كل طابور من التلاميذ بانتظام شبه عسكري وعلى رأسه معلّم الفصل ، ليبدأ بعدها يوم طويل نزاول فيه نشاطاتنا المدرسية كالمعتاد.

في نهاية ذلك العام كانت امتحانات الشهادة الرسمية للصف السادس الابتدائي ، ما استوجب على طلاب مدرستي الخضوع للامتحانات في مدرسة أخرى ووفق أرقام جلوس أعدت لتلك الغاية. أتممت الامتحانات بنجاح وانتهت هذه المرحلة الابتدائية لتعلن انفصالي عن صديقي المغامر وعن آخرين من أصدقائنا المشتركين ، بعد أن اضطر الناجحون منّا إلى الانتقال إلى مدارس مختلفة للمرحلة الإعدادية ، فلم يتسن لنا أن نوّدع بعضنا أو نتبادل التذكارات أما أنا فقد اضطررت إلى السفر إلى خارج وطني مع أسرتي والالتحاق بمدرسة هناك. مرّت الأيام حتى فرّقت بيني وبين صديقي المغامر سنين طويلة بلغت نحو عشر سنوات ، كنتُ قد عدت خلالها إلى وطني لإكمال دراستي. لكن على الرغم من طول تلك السنين إلا أنها لم تُنسني العديد من أصدقائي وزملاء مدرستي الإبتدائية الذين أخفت السنين أثرهم ، ولم يبق في ذاكرتي منهم إلا أسماءهم الأولى: خالد ، حسين ، سامح ، أيمن ، عمرو ، عمر ، محمد ، وفاء ، إيرين ، وسام

مرت السنين كالمعتاد والتحقت بالمدرسة الثانوية ولم تشأ الصدفة أن تجمعني بأحد من أصدقائي القدامى ، لكنني تعرفت على أصدقاء آخرين منهم من أصبح بمثابة أخوة لي. في عام 1986 وبينما كنت جالساً أمام شاشة التلفزيون أتابع خبر انطلاق مكوك الفضاء تشالينجر ، وقعت كارثة لم أتوقعها ، حين انفجر المكوك بعد دقائق على انطلاقه من قاعدة كايب كنافرال بفلوريدا بسبب عطل في خزانات الوقود. انتابني شعور حزين ومرعب في تلك اللحظة وأنا أشاهد المكوك يتحوّل إلى كتلة متوهجة من النيران تتساقط أشلاؤه على مياه المحيط أمام أنظار العالم ، وعلى متنه طاقم من علماء ومعلّمة كانت في أول رحلة لها إلى الفضاء لمشاهدة كوكبي الأرض والقمر . على الفور تفجّرت في ذهني تفاصيل حكاية صديقي المغامر ، وتذكرت قصته الخيالية التي انطلت عليّ حين كنت طفلاً صغيراً ، وعشت تفاصيلها معه كأنني مساعده الأيمن في عملية إطلاقه من على شرفة منزله. في تلك اللحظة قررت أن أجد صديقي المغامر ، وأن أبدأ رحلة البحث عنه لأطمئن عليه وعلى أحواله. لكن سرعان ما أدركت أنني لا أعرف عنوانه ، فآخر مرة رأيت فيها منزله كانت قبل زمن بعيد.

جلست في غرفتي أحاول الرجوع بالذاكرة إلى الوراء نحو عشر سنوات لكي أتتبع خط سير باص المدرسة. تذكرت أن المسافة الفاصلة بين منزلي ومنزل صديقي المغامر كانت نحو 5 دقائق فقط ، أي أن بيته لابد وأن يكون في محيط منطقتي السكنية. لم يكن لديّ وقتها خرائط إلكترونية أو تكنولوجيا الإنترنت الموجودة في متناول الجميع اليوم. رسمت بعض الخطوط على ورقة دفتر الرسم العريض وحوّلتها إلى ما يشبه الخريطة ، ثم بدأت باسترجاع بعض المعالم التي مازلت أذكر رؤيتها على الأرض من نافذة باص المدرسة: مطعم فلافل ، كراج تصليح سيارات ، مفترق طرق وإشارات مرور ، جمعية تعاونية ، حديقة عامة

في ذلك اليوم كان دوري لكي أتحوّل إلى مغامر ، لكن من نوع آخر ، مغامر مهمته الرئيسية العثور على صديق طفولته والاطمئنان على حاله. نزلت إلى الشارع وكانت نقطة انطلاقتي هي ناصية الشارع حيث كنت أقف منتظراً باص المدرسة كل صباح وأنا طفل صغير. بدأت رحلة المشي على الأقدام ، أنظر يميناً ويساراً بحثاً عن تلك المعالم ، حتى بدأت قطع الأحجية تتجمّع وتكتمل صورةً واضحة المعالم شيئاً فشيئاً. مرّت نصف ساعة حتى وجدت نفسي أقف أمام مبنى عريض على جانبي باحته الأمامية أحواض بأشجار لم تكن خضراء كما أتذكرها من طفولتي بل غطتها الأتربة والغبار أما أشعة الشمس فكانت قد غادرت الباحة وأصبحت خلف المبنى تسمّرت عيناي على شرفة واحدة في المبنى لها باب خشبي أخضر أدركت أنها الشرفة نفسها التي انطلق من عليها صديقي المغامر نحو الفضاء ، والتي أشار إليها بإصبعه على متن باص المدرسة.

بدأت دقات قلبي تتسارع مدركاً أنني أكملت المرحلة الأولى من مهمة البحث بالعثور على المبنى العريض. لكن هل صديقي المغامر في هذا البيت؟ تُرى هل رحلوا عنه وانتقلوا إلى سكن آخر؟ أسئلة أخرى راودتني لكنني قررت أن أتوكّل على الله سبحانه ، وأن لا أترك تلك الأسئلة تثبط من عزيمتي في إكمال المهمة التي كلّفت نفسي بها. ثم تساءلت ، هو يسكن في الطابق الأول ، لكن ما رقم الشقة؟ علب البريد في مدخل العمارة كانت مهترئة وليس عليها أسماء عندها قررت أن أصعد إلى الطابق الأول لأرى ماذا يخبيء لي القدر من مفاجأة ، وأن أطرق جميع أبواب شقق هذا الطابق إذا لزم الأمر، وأن أخاطر بسماع بعض كلمات التوبيخ من أصحابها في حال أزعجت أحداً منهم في تلك الساعة من بعد الظهر.

صعدت السلّم وتوجهت يساراً ثم دققت جرس أول باب قابلني لحظات وفتح لي شخص يرتدي بيجاما من الكستور المخططة وبأكمام طويلة ، عرفته على الفور ، كان الواقف أمامي هو زميل الطفولة صديقي المغامر بشحمه ولحمه ، نظرت إليه وناديته باسمه ، ثم سألته هل تتذكر من أنا؟ نظر إليّ وقطب حاجبيه ، ثم سرعان ما برقت عيناه وارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة بعد أن عادت به الذاكرة في لحظة واحدة عشر سنوات إلى الوراء ليتعرّف عليّ رغم السنين التي باعدت بيننا في طفولتنا ، وجعلتنا الآن شابين بالغين بملامح أكثر نضجاً. ناداني باسمي ، وقال نعم أتذكرك تعانقنا على الباب ودعاني لدخول منزله ، جلسنا قرب الشرفة نفسها ذات الباب الخشبي الأخضر نحتسي كوباً من الشاي ، ثم أخذنا نتكلم ونتكلم ونتكلم ، لتتجدد بعد ذلك صداقة الطفولة وتنمو وتستمر بين صديقين وزميلين جلسا طوال ستة أعوام في فصل دراسي واحد … صداقة بقيت في قلبي ، وحكاية ترسخت في ذهني ، حكاية كانت خيالية لكن أثرها ووقعها في نفسي كان أكثر من مجرد كونها خيالاً ، فبالنسبة لي كانت القصة حافزاً دفعني للبحث عن صديق من زمن الطفولة الجميلة ، زميل أكن له المحبة فرّقت بيني وبينه سنين الغربة وأعوام طويلة من أشغال الحياة التي لا تنتهي ، لكنها لم تثبط من عزيمتي في الاستمرار بالتواصل مع أصدقائي وأحبائي.

بقلم حسام مدقه

أنا وصديقي المغامر (يسار) خلال زيارتي للقاهرة 2012

بواسطة راديو بيتنا

صوت المهاجر العربي من راديو بيتنا تأسس عام 2010 ويتخذ من مدينة وندسور بمقاطعة أونتاريو مركزاً له. ويُعنى بالشأن الفني والاجتماعي والاقتصادي في كندا والولايات المتحدة الأمريكية.