الفتاة التي سقطت من السماء

جوليان كوبيك ، فتاة معجزة ، ذات إرادة فولاذية ، ومراهقة كسرت كل قوانين الفيزياء حين شاء القدر أن تكون الناجية الوحيدة من رحلة مشؤومة قضى فيها جميع ركاب طائرتها المنكوبة ، عندما هوت من كبد السماء إلى قلب أدغال غابة أمازونية ، تراشقت على أرضها بقايا المعادن والبشر.

ولدت جوليان كوبيك في الخمسينيات من القرن الماضي وكانت الإبنة الوحيدة لعالمين ألمانيين يعملان في متحف التاريخ الطبيعي بمدينة ليما عاصمة البيرو في أمريكا الجنوبية. عندما بلغت جوليان الـ 14 من عمرها ، انتقل والدها إلى واحدة من غابات المطر الأمازونية لإنشاء مركز أبحاث أطلقا عليه اسم بانغوانا. وبحكم إقامتها هناك مع والديها ، جمعت جوليان المعرفة الضرورية والتقنيات اللازمة للبقاء على قيد الحياة ، حتى لقبت بفتاة الأدغال. غير أن السلطات التعليمية في ألمانيا لم يرق لها وضع جوليان التعليمي ، وأرغمت والديها على إعادة جوليان إلى المدرسة الألمانية في العاصمة ليما لإتمام امتحاناتها الدراسية. أتمت جوليان الامتحانات بنجاح ثم تخرجت من مدرستها الثانوية في ديسمبر عام 1971.

كانت والدة جوليان وتدعى ماريا تعمل في العاصمة ليما قبل تخرج ابنتها من المدرسة الثانوية ، وكانت تخطط للعودة إلى بانغوانا مع ابنتها في الـ 19 أو العشرين من ديسمبر عام 1971 ، إلا أن جوليان أرادت حضور مراسم حفل التخرج من مدرستها الثانوية في الـ23 من الشهر ذاته. وافقت ماريا على البقاء مع ابنتها وغيرت موعد رحلتهما إلى عشية عيد الميلاد ، وهو وقت كانت فيه جميع الرحلات الجوية محجوزة باستثناء رحلة واحدة تسيرها شركة لانسا الجوية ، فحجزت تذكرتين على متن واحدة من طائرات تلك الشركة رغم تحذير زوجها لها من السفر على متن طائرات تلك الشركة لسوء سمعتها.

خلال رحلة الطائرة التي كانت من طراز Lockheed L-188A Electra ضربتها صاعقة برقية قوية ناجمة عن عاصفة رعدية ما تسبب في انقسام الطائرة وتفككها قطعاً متناثرة من على ارتفاع فاق ثلاثة كيلومترات في الهواء. جوليان التي بقيت مثبتة في كرسيها بفضل حزام الأمان ، نجت بأعجوبة من سقوط الطائرة ، لكنها أصيبت بكسر في الترقوة ، وبجروح في ذراعها الأيمن ، و بتورم شديد في عينها اليمنى ما تسبب في إقفالها تماماً. تقول جوليان إن أولوياتها الأولى بعد أن استردت وعيها من وهلة ما حصل ، كان العثور على والدتها التي كانت جالسة بجوارها ، إلا أن بحثها عن والدتها باء بالفشل ، لتعلم فيما بعد أن والدتها كانت قد نجت من حادث تحطم طائرتهما ، إلا أنها توفيت متأثرة بإصاباتها بعد بضعة أيام.

عاشت جوليان خلال محنتها في الأدغال على بعض قطع الحلوى التي عثرت عليها في مكان سقوط أشلاء الطائرة ، وتابعت رحلة البحث عن مخرج من الأدغال حين وجدت جدولاً مائياً غير عميق تبعت اتجاه جريان الماء فيه كما علمها والدها بأنه سوف يقودها إلى حضارة ما في نهاية المطاف. عاشت جوليان تجول أدغالاً من الأشجار والكائنات الغريبة لعشرة أيام حتى وجدت قارباً راسياً بالقرب من كوخ صغير. وبداخله وجدت صفيحة بنزين سكبت منها على جروحها لكي تطهرها من الديدان ، ثم أمضت أول ليلة دافئة لها داخل ذلك الكوخ. تقول جوليان:

أرغمت نفسي على البقاء في الكوخ مع أنني كنت أود أن أغادره ، لكنني لم أشأ أن آخذ القارب لأنني لم أرد سرقته …

في صباح اليوم التالي عثرت مجموعة صغيرة من الصيادين على جوليان واصطحبوها إلى قريتهم. وفي اليوم الذي تلاه تطوع أحد الطيارين المحليين بنقلها جواً إلى المستشفى في بوكالبا حيث التم شملها بوالدها هناك. وبعد أن تعافت من إصاباتها ، ساعدت جوليان فرق الإغاثة والبحث في تحديد موقع تحطم الطائرة واستعادة جثث الضحايا. أما جثة والدتها فقد تم العثور عليها في الـ 12 من يناير عام 1972.

ظهرت نظريات عدة حول كيفية نجاة جوليان كوبيك من تحطم الطائرة ، فمنها من اعتبر أن المقعدين على طرفي مقعدها الأوسط ساهما في حمايتها وإبطاء سقوطها ، كما ساهم الغطاء الكثيف لأغصان الأشجار في تخفيف سقوطها على الأرض. وتقول نظريات أخرى أن العاصفة الجوية خلقت تياراً هوائياً صاعداً ربما ساهم في تخفيف حدة سقوطها.

انتقلت جوليان كوبيك إلى ألمانيا بعد ذلك حيث تعافت من إصاباتها تماماً ، وعلى غرار والديها ، درست علم الأحياء بجامعة كيل وتخرجت عام 1980، ثم تلقت درجة الدكتوراة من جامعة لودويغ ماكسميليان في ميونخ وعادت إلى البيرو لإجراء أبحاث على الثدييات ، فتخصصت في علم طيور الخفافيش. نشرت جوليان أطروحتها المعنونة بـ دراسة طبيعية لمستوطنة الوطواط في غابة المطر الاستوائية في البيرو ، وذلك عام 1987.

جوليان ديلر ، كما تُعرف الآن نسبة إلى اسم زوجها ، تعمل أمينة مكتبة ولاية بفاريا لمجموعة كتب عالم الحيوان في ميونخ. كما تلقت جائزة كورين للآداب عام 2011 عن كتاب سيرتها الذاتية الذي يحمل عنوان “عندما سقطتُ من السماء”. في عام 2019 قلّدتها حكومة البيرو ميدالية الاستحقاق عن خدماتها المتميزة بالإضافة إلى رتبة ضابط أعلى.

قصة جوليان التي انتشرت تفاصيلها في السبعينيات استوحت أحداثها العديد من شركات الإنتاج السينمائي ، كان أبرزها فيلم منخفض الميزانية للمخرج والكاتب الإيطالي غوسيب ماريا سكوتيز يحمل اسم “المعجزات لاتزال تحدث” ، والذي تم إنتاجه عام 1974 وقامت الممثلة البريطانية سوزن بناليغن فيه بدور البطولة.

بواسطة حسام مدقه

إعلامي حائز على شهادتي الليسانس في الأدب الإنكليزي وآدابها ، وفي علوم الاتصال ووسائل التواصل والسينما. عمل مترجماً متفرغاً مع عدد من محطات التلفزة وشركات دوبلاج مرموقة في بيروت وعواصم عربية أخرى meddaka.wordpress.com