بقلم | د. نعيمة الأيوبي
كنا خمس فتيات ، ظمئت نفوسنا إلى ارتياد مناهل العلم في الجامعة … غير أننا خشينا إثارة الرجعيين … أولئك الذين نصبوا أنفسهم حماة التقاليد المزعومة. ورأينا أن نلجأ إلى أستاذنا الدكتور طه حسين بك … فما أن وقف على رغبتنا حتى وعد بتحقيقها ، ونصح إلينا أن نلتزم الصمت ونتجنب إذاعة الخبر حتى لا تخوض فيه الصحف ، فيتعذر عليه المسعى.
وعملنا بنصيحة أستاذنا ، وكانت “مؤامرة” ناجحة ، إذ فوجئ الرأي العام بنبأ قبولنا في الجامعة ، ولكن بعد أن أصبح القبول نهائياً.
كان الجو الجامعي غريباً علينا ، وكنا غرباء فيه … كان الجميع يرقبون حركاتنا وسكناتنا … وأينما اتجهنا أحاطت بنا الأنظار ، كأننا مخلوقات عجيبة تظهر على الأرض للمرة الأولى. وكنا نتحاشى أن نتحدث إلى الطلبة ، أو نتقرب من الأماكن التي يكثر وجودهم فيها ، وإذا حيانا أحد تجاهلنا التحية. وهكذا أمضينا وقتاً طويلاً ، في شبه عزلة ، حديثنا همس ، وخطواتنا استراق.
وكانت المرة الأولى ، التي سمع فيها الطلبة صوتي ، حينما اعتدت السلطات على استقلال الجامعة ، فثرت مع الثائرين. ووقف أخطب في نحو 1800 طالب وبدت الدهشة على وجوه الطلاب وهم يسمعون صوتي للمرة الأولى … وراحوا يضحكون قائلين: “نطق أبو الهول” !
وتوليت قيادة الطلبة ، خارج حجرات الدراسة ، واستمر الاضطراب عن تلقي الدروس زهاء ثلاثة أسابيع. وكم كانت غبطتي حينما دعاني العميد ذات يوم ، وطلب إلي أن أعمل على إعادة الطلبة إلى الجامعة ، كما عملت على إخراجهم … بعد أن زالت أسباب الاضراب …
وجاشت في نفوسنا – خلال سنين الدراسة – أمنية التبريز في ضروب الرياضة. لكننا لم نجسر على الإفصاح عن هذه الأمنية … فظلت حبيسة صدورنا.
والآن ، وبعد أن عجمنا الحياة ، حلوها ومرها ، أستطيع أن أقول أن اختلاط الطلبة بالطالبات ، لا ينجم عنه أي ضرر بل العكس … إنه يكسب الفتاة حصانة ومناعة … إذ أن الحجر لا يحمي الفتيات ولا يصونهن … ويجب أن تشعر الفتاة أنها مسؤولة عن نفسها ، وأن لها من أخلاقها خير حصن …
نعيمة الأيوبي هى ابنة المؤرخ إلياس الأيوبي ، ولدت بمدينة الإسكندرية ، وتلقت تعليمها الابتدائي في مدرسة محرم بك الابتدائية بالإسكندرية ، وهى واحدة من أول خمس فتيات التحقن بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حالياً) عام 1929م ، وحصلت على ليسانس الحقوق عام 1933. نشرت مقالتها أعلاه للمرة الأولى في مجلة “الاثنين والدنيا” عام 1945. اتخذت نعيمة الأيوبي قراراً جريئاً بالعمل فى المحاماة ، في وقت كانت المحاماة فيه مقصورة على الرجال. وقدمها عبد الله حسين المحامي إلى أوساط المحامين ، وساندها ودعمها كثيراً ، ودافع عن حقها في العمل ، وعن حقوق المرأة ، وتقدمت بطلب لمحكمة الاستئناف لقبول قيد اسمها في جدول عموم المحامين ، وبذلك تصبح نعيمة الأيوبي أول طالبة مصرية تخرجت في كلية الحقوق ، وأول محامية مصرية تفجر معركة المساواة بين الرجل والمرأة.