بقلم | كابي لطيف
تطفئ مونت كارلو الدوليّة شمعتها الخمسين بعدما أضاءت الدرب لملايين المستمعين والمستمعات في العالم العربي وأنحاء العالم. ولا زالت منذ نشأتها في العام 1972 منارةً للأجيال في المشهد الإعلامي عبر برامجها الثقافيّة والفنيّة والسياسيّة المرتكزة على الحياد والمصداقيّة واحترام الآخر وحوار الثقافات.
مونت كارلو الإذاعة الفرنسية الناطقة بالعربية أسّسها الجنرال شارل ديغول لتكون جسرًا من التواصل مع العالم العربي. شهدت نجاحاً متنامياً منذ تأسيسها، كما أسهمت في ولادة لغة إذاعيّة جديدة ومجدِّدَة بالمقارنة مع الإذاعات الرسميّة المحليّة في العالم العربي. وتبعاً لشدة تأثيرها على المستمعين أصبحت، منذ ظهورها، إذاعة القيادات والجماهير في كامل منطقة الشرق الأدنى والأوسط.
منذ نصف قرن حافظت على خصوصيّتها وخطّها الإعلامي العريق. برامجها، أسلوبها وأداؤها تصدر من فرنسا مطّعمةً بنكهة معاصرة تجمع الشرق بالغرب بقالب ثقافي عصري حديث. نشراتها الإخباريّة نموذجا يقتدى به وعنواناً للحداثة في الشكل والمضمون.
في عيدها الخمسين، أعود لدور العاملين فيها وانخراطهم في المحافظة على إرثها لأنّها لا تشبه أي إذاعة أخرى في العالم. منذ البداية، كانت إذاعة مونت كارلو ولا تزال ملجأ للعديد من الزملاء العرب المشرقيّين والمغاربة الذين غادروا بلدانهم لأسباب سياسيّة أو أمنية أو اقتصاديّة بحثاً عن النور في بلد الأنوار، وأنا منهم. في الحقيقة، كنت من الذين لجأوا الى عاصمة النور باريس التي حضنتني بعد حرب لبنان.
كنت أبحث عن مدينة تأوي دموعي وتحوّلها الى ابتسامة، وعن بديل يزيل مخاوفي وارتعادي. وكنت أبحث أيضًا عن مكان ألجأ اليه للحوار والتواصل، وعن شركاء في الفكر والإبداع وجدتهم في ضيوفي. كنت أبحث عن التنوّع فوجدته في رفاق المشوار الإعلامي. وعن حبّ لا يخذل ولا يراوغ وعن شريك منزّه ومنفتح وجدته عبر المذياع. كنت أبحث عن ذاتي فوجدتها في هذه الإذاعة.
علاقة حب نشأت بين جمهور الإذاعة وبين أصواتها خلال العقود الخمسة. أسماء ذهبية تناوبت على استمراريتها. مَنَحني هذا الجمهور الوفي أروع براهين الحب والوفاء، وما من حب من دون ثقة. كبر على أصواتنا وكبرنا معه.
فضلاً عن كل ذلك، تربطني علاقة حب مع ضيوفي في إذاعة مونت كارلو الدولية. في كل مرة أحاور أحدهم او إحداهن ينشأ بيننا جسر من التواصل الخفي. فهو أو هي تدلي بمكنونات صدرها وتمنحني عبر اللقاء خلاصة تجربتها أو معاناتها أو جهودها التي أدّت الى ما وصلت إليه.
لم أكن أدرك مدى ثراء تلك اللقاءات التي أجريتها مع العديد من المفكّرين والمثقّفين والفنّانين وانعكاساتها على ذاتي. ولأنني كنت منغمسة في اليوميات كانت تبدو عادية. أما اليوم فقد اتّضح لي أنني عشت زمناً ثرياً إستثنائيًا من بيروت إلى باريس بدءًا بتلفزيون لبنان وصولا إلى مونت كارلو الدولية التي تتصدّر مسيرتي الإعلاميّة منذ عقود.
في لبنان، تركت وجهي.. وإلى باريس حملت صوتي.. فاستقر!