كيف نمنع حرباً عالمية ثالثة ؟!

ما يلي هو مقالة مترجمة منقحة للفيديو أدناه والذي قدمته الناشطة الحقوقية والإعلامية الأمريكية الكبيرة آبي مارتين مؤخراً على يوتيوب. يرصد الفيديو حقائق هامة حول دور حلف شمال الأطلسي في افتعال الأزمات العالمية ، بهدف توضيح صورة ما يجري على الساحة العالمية في الوقت الراهن وجذوره التاريخية. وللأهمية فقد ارتأيت تقديم الترجمة العربية كاملة وتوفير روابط (باللون الأحمر) مختلفة للتوعية وإثراء وعي المتابع لما يجري على الساحتين السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط والعالم.

هاستينغز إزمي أول من تولى منصب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي أو الناتو ، قال إن هدف الحلف هو إبعاد السوفييت عن أوروبا ، وإبقاء الهيمنة فيها للأمريكيين وعدم السماح للألمان بالنهوض عسكرياً. واليوم لم يعد للسوفييت وجود ، والهيمنة الأمريكية باقية في أوروبا على ما يبدو ، والألمان أكثر ضعفاً يوماً بعد يوم. فهل حقق حلف الناتو أهدافه؟ وإن حققها ، فما هو مبرر استمراره؟ ولماذا وصف فيدال كاسترو حلف الناتو بأنه أكثر أدوات القمع غدراً في تاريخ البشرية؟ للإجابة على هذه الأسئلة نعود بالزمن إلى تاريخ حلف الناتو في أوروبا وما وراء ذلك ، لنطرح السؤال التالي ، لماذا قد يتسبب حلف دفاعي باندلاع حرب عالمية ثالثة؟

ظهر حلف الناتو إلى حيز الوجود بعد واحدة من أكثر الأحداث اضطراباً في تاريخ البشرية. فقد بدا العالم مترنحاً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، في حين كان ميزان القوى الجيوسياسية يمر بتحولات غير عادية. فقد خسر الاتحاد السوفيتي 27 مليون من مواطنيه ثمناً لهزيمة ألمانيا النازية ، بينما خسرت الصين أكثر من 20 مليوناً من مواطنيها في حرب امتدت لفترة أطول ضد الإمبراطورية اليابانية. أما البريطانيون فقد تعرضوا لعمليات قصف جوي هائلة ، وأضحت مستعمراتهم ضحية للمجاعات والتقسيم والإهمال. لقد كانت أوروبا في حالة مزرية بسبب تلك الحرب ، في حين خرجت الولايات المتحدة من تلك الأزمة قويةً إقتصادياً ، وبعد قصف نجازاكي وهيروشيما ، أصبحت أمريكا تحتمي بدرع القوة الذرية التي تمتلكها ، وعاجلت باستخدام قوتها الذرية الجديدة تلك لفرض هيمنتها السياسية على العالم.

“إن القوة الراجحة أو الغالبة يجب أن تكون هدف السياسة الأمريكية”

هذا ما ورد في مذكرة وزارية أمريكية نشرت عام 1947. وعليه فقد كان حلف الناتو يُعد قطعة مهمة في ذلك المخطط ، حيث تم تأسيسه عام 1949 تحت هدف واحد هو ردع التوسع السوفيتي ، وإقامة تموضع دائم لأمريكا الشمالية في القارة الأوروبية.

لكن حلف شمال الأطلسي لم يكن المعاهدة العسكرية الوحيدة التي وقعتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ، وتكشف المعاهدات الأخرى الكثير حول دوافع إنشاء حلف الناتو. من تلك المعاهدات ، منظمة معاهدة جنوب شرق آسيا المعروفة اختصاراً بـ SEATO ومعاهدة حلف بغداد أو CENTO ، وكل من تلك المعاهدات كانت جزءاً من استراتيجية اقتصادية وعسكرية معقدة تهدف إلى تطويق واحتواء المد الشيوعي.

يصر حلف الناتو على اعتبار نفسه قوة من أجل الديمقراطية ، لكن منذ نشأته ، قام الحلف بتسليح وحماية ودعم أكثر القوى الرجعية في المجتمعات الأوروبية. ففي حين لم يكن رماد الدمار الذي تسببت فيه الحرب العالمية الثانية قد استقر بعد ، وجدت الولايات المتحدة نفسها منشغلة في إعادة تأهيل الجماعات الفاشية في جميع أنحاء القارة الأوروبية. فأنطونيو سالازار مؤسس ما يُعرف بنظام الدولة الجديدة أو الجمهورية الثانية في البرتغال ، كان عضواً مؤسساً في حلف الناتو وظل عضواً أساسياً فيه قبل أن تتم الإطاحة به عام 1974. أدولف هويزينغر ، الذي كان أحد كبار الضباط النازيين المقربين من هتلر والمطلوب لدى الاتحاد السوفيتي في تهم متعلّقة بجرائم حرب ، أصبح رئيس الهيئة العسكرية في حلف الناتو.

هذا ولا يبدو أن كثيرين يتذكرون أعمال العنف التي اجتاحت أوروبا في تلك السنوات. فمن خلال مبادرات مثل عملية غلاديو ، موّلت الولايات المتحدة عمليات استخباراتية في كافة أنحاء أوروبا حيث أنشأت شبكة سرية شبه عسكرية جاهزة لضرب وتعطيل الحركات الشعبية التي اكتسحت أوروبا.

منذ عام 1948 وما بعد قامت وكالة الاستخبارات الأمريكية بتحويل عشرات الملايين من الدولارات لمتشددين في جماعات يمينية متطرفة في إيطاليا وحدها. وكانت تلك الجماعات مسؤولة عن عشرات الهجمات الإرهابية التي تسببت في مقتل المئات ، والتي اتهم كثيرون اليسار بتنفيذها. إن تلك العمليات ، وفقاً لهيئة برلمانية إيطالية تشكلت عام ألفين ، كانت جزءاً من استراتيجية التوتر التي أُرهب بموجبها المناصرين للحركات الشيوعية والاشتراكية المتصاعدة بهدف التخلي عن تلك الحركات ، وهدفت بشكل أساسي إلى منع الحزب الشيوعي الإيطالي ، ولحد معين أيضاً ، الحزب الاشتراكي الإيطالي ، من الوصول إلى سدة الحكم في البلاد.

لم تقتصر النشاطات الأمريكية على إيطاليا فحسب بل تجاوزتها لترتبط بالمافيا الكورسيكية التي أنجبت عملية الوسيط الفرنسي ، وكانت خطة ذائعة الصيت لتهريب المخدرات ، أُدخلت بموجبها معظم كميات الهيروين إلى الولايات المتحدة آنذاك ، كما نالت تلك النشاطات دعم جهاز الاستخبارات الأمريكي لمنع صعود القوى الشيوعية في فرنسا ، مثلما ناله أيضاً تنظيم الذئاب الرمادية في تركيا وجماعة النظام والتقاليد في البرتغال والمجلس العسكري اليوناني وكثير غيرها.

إن تكليف إنشاء حلف الناتو ينبع بشكل مباشر من التهديد الذي شكلّه الاتحاد السوفيتي ، واتساع شعبية الحركة الشيوعية خارج الاتحاد السوفيتي يقع ضمن إطار مسؤوليات حلف الناتو. وكأداة للهيمنة الأمريكية ، لا يستطيع حلف الناتو القبول بصعود سياسات مناوئة للاستعمار ضمن نطاق عملياته ، والمثال الإيطالي يكشف مدى تماسك طريقة عمل حلف الناتو والأهداف الأوسع للإمبراطورية الأمريكية.

يصر حلف الناتو على اعتبار نفسه الكافل للحريات العامة ، لكن ليس علينا سوى أن ننظر إلى الماضي لنرى البصمات التي تركها على محاولاته سحق الآمال الشعبية لنيل السيادة الوطنية. فخلال نضاله للتحرر من الاستعمار البرتغالي ، وصف قائد حركة غينيا بيساو الزعيم أميلكار كابرال الأسلحة التي تدفقت على إفريقيا من خلال حلف الناتو لدعم حروب نظام سالازار ضد شعوب أنغولا وموزامبيق وغينيا بيساو وكايب فردي يقول:

“الناتو هو الولايات المتحدة. لقد استحوذنا في بلادنا على العديد من الأسلحة الأمريكية ، والناتو هو الجمهورية الألمانية المتحدة ، فلدينا الكثير من بنادق الماوزر التي غنمناها من الجنود البرتغاليين ، والناتو في الوقت الراهن على الأقل هو فرنسا أيضاً. في بلادنا توجد مروحيات ألويت ، الناتو إلى حد كبير أيضاً هو حكومة الشعب الإيطالي ، فقد غنمنا من الجيش البرتغالي أسلحة أوتوماتيكية وقنابل يدوية إيطالية الصنع.”

إذا كان حلف الناتو قد نشأ لوقف التمدد الشيوعي ، فهذا يعني أن حركات استعادة السيادة الوطنية في الدول المستعمرة لابد وأن تصبح بدورها هدفاً تتم مهاجمته أيضاً.

وفي إشارة إلى دعم حلف الناتو لنظام سالازار، أدان رئيس الوزراء الهندي جواهرلار نهرو الحلف خلال مؤتمر باندونغ عام 1955 ، معتبراً إياه واحداً من أقوى حماة الاستعمار. فقد تحوّل معظم شمال أفريقيا تقريباً إلى محور لعمليات لحلف الناتو ، كما ذكر المؤلف ولتر رودني في كتابه “كيف تخلّفت إفريقيا على يد أوروبا” يقول:

مراراً وتكراراً تشير الأدلة إلى الاستغلال المعيب للقارة الأفريقية لدعم نظام الرأسمالية إقتصادياً وعسكرياً ، وبالتالي أرغمت بذلك أفريقيا على أن تساهم في استغلال ذاتها بذاتها.”

هذه الإجراءات لم تنته حتى يومنا هذا بعد ، فعلى سبيل المثال ، تُستخدم ترسانة الناتو ضد تطلعات شعب الصحراء الغربية في تقرير مصيره ، مثلما تسلّح عمليات الاحتلال الإسرائيلي لإبادة الفلسطينيين.

يصر حلف الناتو على أن هدفه هو حماية جميع أعضائه ، لكن الواضح أن الحلف يعمل لخدمة مصالح أكثر أعضاءه قوة ، الولايات المتحدة. فبعد انتصار أمريكا في الحرب الباردة وتفكيك حلف وارسو ، قد يظن المرء أن مهمة الحلف انتهت. ولكن في نوفمبر من عام 1990 تبنى مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي ميثاق باريس من أجل أوروبا جديدة. هذا المستند التاريخي الذي أصبح منسياً الآن بشكل كبير ، أكد على أن زمن المواجهة والتقسيم في أوروبا قد انتهى. ولكن بينما كانت أوروبا والاتحاد السوفيتي يحاولان إقامة نموذج أمني جديد عبر الأراضي الأوراسية ، كانت الولايات المتحدة تستعد لعهد جديد تفرض فيه نفوذها وهيمنتها.

“لا يسعنا أن نسمح للسوفيت باقتناص النصر من بين فكي الهزيمة”،

هذا ما قاله جورج دبليو بوش للمستشار الألماني هلمت كول عام 1990. ولاحقاً في ذلك العام ، قال للرئيس الفرنسي آنذاك فرنسوا ميتران أنه لن تكون هناك منظمة تحل مكان حلف الناتو قادرة على أن تكفل أمن واستقرار الغرب. وبهذه الطريقة مهد بوش الأب الطريق أمام توسع حلف شمال الأطلسي. على الرغم من الضمانات المؤكدة التي قدمها جايمس بايكر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك لنظيره السوفيتي إدوارد شيفرنادزه في موسكو عام 1990 ، والتي نصت على أن قوات حلف الناتو لن تتحرك شرق الحدود الألمانية … إلا أن الدوافع الكامنة وراء تلك التحركات أصبحت واضحة المعالم بعد تسرب وثيقة تحمل اسم عقيدة ولفويتز عام 1992.

“إن هدفنا الأول” كما تقول الوثيقة ، “هو منع ظهور منافس جديد مرة أخرى ، سواء على أراضي الاتحاد السوفيتي السابق أو في أي مكان آخر.”

عقيدة ولفويتز والتي مهدت الطريق أيضاً أمام القيام بعمليات تدخل عسكرية استباقية ، تمت مراجعتها لاحقاً من قِبل نائب الرئيس الأمريكي آنذاك ديك تشيني والجنرال كولين باول لتصبح السياسة المعتمدة لدى الرئيس جورج دبليو بوش الإبن ، ما تسبب في وقوع أحداث دامية ومؤسفة في الشرق الأوسط.

لكن حلف الناتو مع ذلك كان مفيداً لبعض أعضائه من ذوي الطموحات الكبيرة. لنأخذ بولندا كمثال ، ففي الخامس والعشرين من آذار/مارس 1997 وصل جو بايدن إلى بولندا وقد كان آنذاك يتولى منصب سيناتور لإلقاء كلمة أمام مؤتمر الجمعية الأوروبية الأطلسية. وفي خطابه حدد بايدن شروط انضمام بولندا لحلف الناتو قائلاً:

“أنا أؤمن بأن المؤسسات الكبيرة المملوكة للدولة يجب أن توضع أيضاً في أيدي أصحاب القطاعات الخاصة بهدف تشغيلها لأهداف اقتصادية بدلاً من اعتبارها مصالح سياسية … وأن مؤسسات كالمصارف وقطاع الطاقة والخطوط الجوية التابعة للدولة ، والمؤسسة الحكومية المنتجة للنحاس ، واحتكار الدولة لوسائل الاتصال يجب أن يتم خصخصتها.”

وعليه فإن عضوية حلف الناتو تحتم على الدول الأعضاء أن تتخلى عن أسس سيادتها الاقتصادية ، وفي الوقت نفسه ربطها بالمنظومة الصناعية العسكرية الأمريكية من خلال شراء المعدات التي تتفق مع معايير الناتو.

“مليارات الدولارات على المحك في معرض الأسلحة العالمي المقبل”

كتبت جريدة نيويورك تايمز عام 1997 ، مشيرة إلى بيع أسلحة إلى دول أوروبية مركزية مدعوة للإنضمام إلى حلف شمال الأطلسي.

في واحدة من أكثر المزاعم سخافة ، لايزال حلف الناتو يصر على أنه حلف دفاعي ، ولكن على مر التاريخ ، ثبت أن الحلف قد دمّر وفكك دولاً بأسرها. فالحرب الليبية شهدت عودة ظهور أسواق النخاسة علناً في دولة كانت تتمتع في السابق بأعلى مؤشر أفريقي من حيث التطور والنمو. وبدوره كان تدمير ليبيا وقوداً لظهور المليشيات والنزاعات المسلحة بشكل تجاوزها إلى مالي والجزائر والنيجر ومناطق أخرى من منطقة الصحراء الأفريقية.

وفقاً لدراسة أجراها مشروع تكاليف الحرب بمعهد جامعة واتسون ، فإن الحروب التي وقعت بعد أحداث 11 سبتمبر وفُرضت على شعوب أفغانستان والعراق وباكستان وسوريا واليمن وليبيا والصومال ، تسببت في مقتل 4 ملايين ونصف إنسان ، وأجبرت الملايين على عيش حياة الفقر والهجرة غير الطوعية. فكثير ممن خاطروا بحياتهم من أجل حياة آمنة إما تم اعتقالهم على حدود دول حلف الناتو ، أو غرقوا في مياه البحر المتوسط ، الذي بات يعتبر أكبر مقبرة في العالم ، أو اختفى أثرهم في معسكرات تركيز تمولها الدول الأعضاء في حلف الناتو بأنحاء شمال أفريقيا.

من بين أهم المعاهدات الأمريكية التي أبرمت بعد الحرب ، لم يتبق إلا حلف الناتو. فقد انتهى حلف بغداد كما انتهت منظمة معاهدة جنوب شرق آسيا. إحداهما تفككت بعد هزيمة الولايات المتحدة على يد القوات الثورية في فيتنام ، والأخرى بعد الثورة الإيرانية. ومع ذلك لا يزال حلف الناتو متواجداً ، ليس لأنه أثبت أنه على استعداد لتكرار الاستخدام المفرط للقوة العسكرية ضد منافسيه. فبعد أن توسع شرقاً بقدر ما توسع في أوروبا ، وضع حلف الناتو نصاب عينيه العالم كله.

إن العقيدة الاستراتيجية المستحدثة لحلف الناتو أشارت إلى أفريقيا والشرق الأوسط على أنهما “الحدود الجنوبية” للحلف ، وخلال مؤتمر القمة الذي عقده الحلف في فينيسيا عام 2023 ، أصدر بياناً شدد فيه على الوضعية الاستراتيجية للحلف كما تم تحديدها مسبقاًً. أما الطموحات الصينية المعلنة فتتحدى مصالح وأمن وقيم حلف الناتو ما يستلزم من الأخير القيام بنقلة محورية من الأطلسي إلى الهاديء.

إن حلف الناتو يُعتبر مفارقة تاريخية. فقد ظهر كأداة للتقسيم والغزو بينما كانت الإنسانية تستعد لتجاوز هيمنة العنف والدخول في عصر جديد من التعاون الإنساني وهي مبادئ تضمنها ميثاق الأمم المتحدة ، الميثاق الذي تم تبنيه بإجماع غير مسبوق. غير أن الطموحات التوسعية لحلف الناتو الآن تزيد من حدة التوتر إلى نقطة الغليان على جبهات عدة ، ما يستدعي لزوم تحدي ومواجهة المهمات العنيفة للحلف وتفكيك آلة الحرب ، وهكذا … نمنع حرباً عالمية ثالثة.

بواسطة حسام مدقه

إعلامي حائز على شهادتي الليسانس في الأدب الإنكليزي وفي علوم الاتصال ووسائل التواصل والسينما. عمل مترجماً متفرغاً مع عدد من محطات التلفزة وشركات إنتاج مرموقة ببيروت وعواصم عربية أخرى meddaka.wordpress.com