احتفالات العراق القديم الدينية

كانت طرق، ومنهاج تفكير الإنسان وقتها في تعلم المعارف: من خلال تجميع أكبر عدد من المعلومات في الذاكرة الفردية، وترتيبها بالشكل الذي يمكن أن يكون مؤثراً فاعلاً عند إعادة روايتها، هذه الذاكرة الملهمة للذاكرة الجمعية، والمحفزة لها، والمادة لها بعناصر جديدة كلما احتاج الأمر. ولا بد بهذا الصدد أن نحصر المعارف في ما يتساوق ومنهاج كل عصر (إذ أن المعارف المحيطة بالفرد كثيرة من أهمهما المعارف الحسابية ، من حيث تسجيل الأعداد ، والمرات، وهكذا، لا مجال للخوض فيه هنا) . ما يهمنا هنا المعارف العقلية، وما له علاقة بالذاكرة، والمخيلة الإبداعية، فإن هذه البؤرة الخصبة، والمخصبة دوماً، بمستجدات تجعلها تواصل ديمومتها، وتمدها بالمعارف سواء لمادة مختزنة في السابق، أو بمواد رافدة، وموازية للموادة السايقة، لا بد لكل منها أن يتخذ محله في ملفات الذاكرة، وخزائن مكتبات العقل، تتراتب بفهرسة منتظمة لا تستعاد إلا من خلال مفاتيح تستحثها للظهور، والانبثاق حين تستدعي الضرورة ذاتياً، ولحالة اجتماعية من غيرحاجة للحث، والحض.ففي العراق القديم، ولخصب الأرض بوجودها بين نهرين عظيمين كان للفرد هنا أيام سعيدة يهنأ بما تدره الأرض عليه، وما يجلبه النهران العظيمان من خيرات، مما يخصب الذاكرة بدوره بأمور تؤهله أن يتذكرها حال حضها.

لكن تلك السعادة لا تدوم إذ سرعان ما تجف الأرض، وتموت المحاصيل فيحار الإنسان في ما حوله، ويفكر في مسألة الغذاء، والجوع، خصوصاً وإن موسم الخصب لن يأت إلا بعد برد قارص يغطي الأرض بالثلوج، فلا أمل في حياة لنبتة في الظهور إلا بقدرة المجهول، وبقدرية محسوبة لدى قوة خارجية تسيطر على مقادير الأمور، لهذا اختصت كل فعالية في الطبيعة بقدرية لها مدير، ومحرك تشكل بربوبيته كإله يتقدس في موسم لينسحب في موسم آخر لغيره ممن يديرون قوة الطبيعة، وهكذا حيث لم يكن لإنسان ذلك العصر طريقة مفهومة لحساب عودة الأمور لحالها، وتكرار ذلك لكل عام، فمن لم يكن ليدرك دورة الأرض حول الشمس، ودوران الأرض حول نفسها لم يكن ليقدر حقيقة المعرفة بالكون، وطبيعة الأشياء وواقعيتها، وهذه هي الأخرى لها ماكنتها في ذاكرة الفرد، والجمع معاً بأشكال مقاربة، إنما بمفرادات مختلفة.

لهذا كان كل شيء أبدي، ومؤقت في نفس الوقت، وإن المجهول يلعب فيها دوره الحاسم، وللقوى المسيطرة على كل ظاهرة من يدير أمورها، يحبسها ويطلقها حسبما يشاء، وليس بأعراف وقوانين الطبيعة التي تعرف الإنسان عليها فيما بعد وحتى هذا اليوم، لكن بتقدم الإنسان في العصور وتراكم الخبرات صارت له ذاكرة مختصة في معرفة المواسم، وتتبع أمورها خاصة بعدما دجن المواشي والطيور، وتعلم فنون الزراعة والحصاد، ومواسم الإثمار، فصار يعرفها، ويحسب لها حسابات، ويعرف متى يزرع، ومتى يحصد، أما الأشجار فقد تعرف على مواسم تورقها، وإزهارها، وإثمارها، فصار يعتني بها كما يعتني بالمواشي التي أنجبت له سلالات جديدة مدرة للحليب ومنتجاته تدرب باكتشاف مواهبه في تنويع مصادرها إلى أشكال قابلة للخزن للمواسم المقفرة، ولهذا حرص على أن يقدم في كل موسم بواكير ما يحصل عليه للإله من الآلهة بعد أن تخلص من عقدة التضحية البشرية، ومن ما حصل في أسطور ليهار وإشنار الواردات في التوراة تحت اسم قايين وهابيل، ففي نص سومري تضمن: النزاع بين المزارع والراعي. كلاهما وهبا مفاتيح المعرفة، أولهما تعلم توطين الأغنام، والثاني تعلم زراعة القمح، هذه البذور والأغنام كان كل من إنليل، وإنكي قد جلباها لشعب وادي الرافدين، ذوي الرؤوس السوداء، الذي تشكل فعليا في عدن، فقرر الأنوناكي منحهم حضارة الـ”نام. لو. غال. لو” وهي معرفة حرث الأرض بواسطة المحراث فعلموا البشر ليس كيفية الاستنبات، وإنما أيضاً كيفية تربية الماشية. حصل ذلك من خلال غرف التوليد “دو. كو” المكان النقي الذي يشرف عليه كل من إنليل وإنكي، وهي غرفة تخليق الألهة للكائنات، فجلبا الإله “لاهار” المسؤول عن الماشية ذات الصوف”، والإله “أنشان” المسؤول عن نوع من الحبوب وهو القمح”.

ومن جانب آخر فقد وثقت الحكاية بشكل ملحوظ، ومتميز ضمن النصوص السومرية في أسطورة زوو، حادثة متعلقة بالتحضير للأوامر حول توفير منتجات الأرض من خام الذهب في أبسو تحت قيادة إنكي وعمليات صهره، وتنقيته في عدن بإشراف إنليل. ستمائة من الأنوناكي يقومون بالعملية على الأرض، إضافة إلى ثلاثمائة من الإيجيجي فوق، نقبوا في المناجم، وحملوها في المركبات الفضائية من خلال مرفأ سيبار إلى نيبيرو، ومركز العمليات كانت تدار من خلال إنليل في نيبور؛ وكان يطلق عليها “دور. آان. كي”، أي روابط الأرض بالسماء، وهناك نهضت منصة في الأعلى خاصة بالمعدات الهامة، والرسوم البيانية السماوية، لمخططات مدارية، ولوحة معلومات “لوائح القدر”، قد وضعت في “دير. غا” أعماق قدس الأقدار المحضورة.

بعد محاولته الأولى حمل مخططاته في طائره “ربما هو طائر الرخ الخرافي”، وذهب للاختفاء في جبال “غرف السماء” في “دورإنكي” كل شيء بدا هادئاً، ومستقراً، قام انزو بقطع الاتصال بنيبرو، ووضع كل العمليات جانباً، وأصبح هدفه الوحيد هو المحاولات، والجهود في الاستيلاء على ألواح القدر، وقتها كان إنليل قد وثق بزوو، وجعله حارساً لمعبده، فنزل إنليل ليستحم، وترك ملابسه، ومفاتيح أسراره جانباً، فاستغل زوو الفرصة وسرق الآلواح، وهرب بها، حتى استطاع نينورتا القبض عليه، وتقديمه للمحاكمة أمام سبعة من الأنوناكي، فقرروا إعدامه، وعلى نينورتا أن ينفذ الحكم.

إن تنفيذ الإعدام بزوو قد صور على رقيم، وحصل هذا قبل خلق الإنسان بآلاف من السنين، فإذا كان هذا هو هابيل، فإن نينورتا هو قايين بذاته الذي لم يكن سوى آلة تنفيذ كقاتل لما قرره الآلهة ، (للدراسة مراجع ومتابعات).

بقلم د. فاروق أوهان

بواسطة راديو بيتنا

صوت المهاجر العربي من راديو بيتنا تأسس عام 2010 ويتخذ من مدينة وندسور بمقاطعة أونتاريو مركزاً له. ويُعنى بالشأن الفني والاجتماعي والاقتصادي في كندا والولايات المتحدة الأمريكية.