دبي ، مدينة الجنة والنار

■ دبي ، مدينة بثلاثة وجوه ، يدور كل وجه منها حول الآخر. فهناك وجه المغترب ، ووجه المواطن الإماراتي خلف قائده الشيخ محمد ، ثم هناك الطبقة العاملة الدنيا التي بنت المدينة بسواعدها ، أفراد محاصرون في داخلها. أفراد لا يراهم أحد لكنهم في مرمى نظرك. في كل مكان تراهم ، في ذلك الزي الأزرق الذي يحمل بقع التراب، يصرخ عليهم رؤساء العمل ، كما لو كانوا عصابة مقيّدة بسلاسل من حديد ، لكن نظرك اعتاد تجاهل رؤية ذلك المشهد ، لأن الاعتقاد السائد في دبي أن الشيخ هو باني المدينة. الشيخ هو من يبني المدينة ، أما العمال؟ فعمن تتحدث؟ 
 
 
يُنقل كل مساء مئات الألوف من الشباب الذين بنوا دبي بحافلات نقل من أماكن عملهم إلى صحراء جرداء تحوي مبان إسمنتية تبعد مسافة ساعة عن المدينة ، يُحجرون فيها بعيداً عن الناس. قبل سنوات قليلة كانوا يُنقلون من محل إقامتهم إلى أماكن العمل بشاحنات مخصصة للماشية ، غير أن استياء المغتربين من أن تلك “المناظر” تسيء إلى شكل المدينة ، ساهم في نقل العمّال بحافلات معدنية صغيرة أشبه بالبيوت الزراعية البلاستيكية الرازحة تحت حرارة الصحراء الحارقة، تجعلهم يتصببون عرقا كقطع إسفنجية ، تعتصر السوائل من أبدانهم ببطء. 
 
“سونابُور” هي رقعة تحوي أنقاضاً متناثرة من مبان إسمنتية متشابه تمتد لأميال وأميال وسط الصحراء. يسكن “سونابُور” والتي تعني بالهندية “مدينة الذهب” 300 ألف رجل يتكدسون فوق بعضهم البعض. في أول مخيم توقفت عنده ، حيث فاحت منه رائحة المجاري والعرق ، تجمع حولي رجال يتوقون إلى رواية قصتهم لأحد ، أياً كان ليعرف ماذا يحدث لهم. 
 
ساهينال منير ، شاب نحيل في الرابعة والعشرين من عمره أتى من منطقة الدلتا ببنغلاديش. يقول ساهينال قبل أن تأتي إلى هنا ، يقولون لك إن دبي جنة. ثم تطأ قدماك هذه الجنة لتدرك عندئذ أنها عين الجحيم. قبل أربع سنين حضر وكيل توظيفات إلى القرية التي يسكنها ساهينال في جنوبي بنغلاديش. قال لرجال القرية إن هناك مكانا يمكنهم أن يجنوا منه 40 ألف تاكا شهريا أي ما يعادل 400 جنيه إسترليني ، لقاء دوام عمل من التاسعة إلى الخامسة في مشاريع معمارية. مكان يُمنح فيه العامل محل إقامة رائع ، وطعام شهي ، ويُعامل بالحسنى. وليس على العامل سوى أن يدفع مقدما 220 ألف تاكا (2300 جنيه إسترليني) للحصول على تأشيرة العمل ، رسم يستطيع العامل سداده بكل يسر في غضون الشهور الست الأول من بدء العمل.
 
باع ساهينال أرض أسرته ، وأخذ قرضا من أحد المقرضين المحليين ليغطي به تكاليف رحلته إلى تلك الجنة. ما أن وصل مطار دبي حتى صادرت شركة البناء جواز سفره ، الذي لم يره منذاك الحين. قيل له بكل وقاحة إنه من الآن فصاعدا سيعمل 14 ساعة يوميا في حرارة الصحراء – التي يُنصح السيّاح الأجانب بعدم البقاء فيها لأكثر من 5 دقائق صيفاً عندما تبلغ الحرارة 55 درجة مئوية – قيل له إنه سيتقاضى 500 درهم شهريا (90 جنيه استرليني) ، أقل من ربع الراتب الذي وُعد به مسبقا. وتقول له الشركة إذا لم يعجبك ، فعد إلى بلدك. “لكن كيف أعود إلى بلدي؟” يتساءل ساهينال. لقد أخذتم جواز سفري ، ولا مال لدي أشتري به تذكرة. فيجيبونه خيرا لك إذا أن تبدأ بالعمل. 
 
أصيب ساهينال بذعر شديد. عائلته في وطنه ، إبنه ، إبنته ، زوجته ووالداه ينتظرون أن يرسل إليهم المال ، سعداء بأنه ارتقى سلم النجاح أخيرا. غير أن الحقيقة هي أنه سيضطر إلى العمل لأكثر من عامين كي يدفع كلفة وصوله إلى هنا … وذلك كله لقاء أن يجني أقل مما كان يجنيه في بنغلاديش. 
 
يريني ساهينال غرفته ، التي هي أشبه بزنزانة إسمنتية صغيرة رثة ، تضم أسِرة من ثلاثة طبقات ينام فيها 11 رجلاً. جميع ممتلكاته مكدسة في كومة على سريره. ثلاثة قمصان ، بنطلون إضافي، وهاتف خلوي. تفوح من الغرفة رائحة نتنة لأن المراحيض المجاورة لزاوية المخيم هي جحور في الأرض طفحت منها الفضلات البشرية وغطتها سحب من ذباب أسود. وبدون أجهزة تكييف أو مراوح هوائية ، تصبح الحرارة شيئا لا يُطاق. لا يمكنك أن تنام  من شدة العرق ومن حكاك جلد جسدك طوال الليل. في ذروة فصل الصيف ، ينام العمال على بلاط أرضية غرفهم أو على الأسطح ، أو في أي مكان يتوسلون فيه السماء نسمة باردة. أما الماء الذي يزود به المخيم فيقول ساهينال إنه يصل في مستوعبات بيضاء ضخمة ، ماء لم تتم تحليته بالشكل الملائم مالح المذاق. “يشعرنا ذلك الماء برغبة في التقيوء ، لكن ليس لدينا غيره لنشربه.”
 
يقول ساهينال أما العمل فهو أسوأ ما يكون في هذا العالم ، نضطر فيه إلى حمل قوالب حجرية وإسمنتية زنتها 50 كلم في طقس حار لا يمكن تخيله .. طقس حار لا مثيل له. يجعلك تتصبب عرقا لدرجة أنه لا يمكنك التبوّل ، لأيام وأسابيع. تصيبك الدوخة أو تمرض ، لكنه ليس مسموحاً لك بالتوقف عن العمل ، إلا لساعة واحدة بعد الظهر. وإذا سقط منك شيء أو انزلقت فقد تفقد حياتك. يقول ساهينال إذا أخذتُ إجازة مرضية ، يخصم ذلك من راتبي ، فيطول بقائي هنا عالقاً لفترة أطول. 
 
يعمل ساهينال حاليا في الطابق السادس والسبعين بأحد الأبراج الجديدة البراقة ، التي يبنيها قطعة قطعة صوب السماء رازخاً تحت شمس الصحراء ، لكنه لا يعرف اسم ذلك البرج. خلال الأعوام الأربعة التي أمضاها هنا ، لم ير ساهينال من دبي التي تشتهر بكونها مقصداً للسياحة ، سوى الطوابق التي يبنيها طابقا تلو الآخر. 
 
تُرى هل هو غاضب؟ أراه صامتاً لفترة طويلة. يقول ساهينال “لا أحد هنا يُظهر غضبه. لا يسعك أن تفعل ذلك، وإن فعلت فقد تـُسجت وراء القضبان لفترة طويلة ومن ثم يرحلونك. لقد أضرب العام الماضي بعض العمال احتجاجا على عدم دفع رواتبهم لأربعة أشهر. فما كان من شرطة دبي إلا أن أحاطت مخيمهم بأسلاك شائكة وأطلقت عليهم مدافع مائية وأجبرتهم على الخروج منها إلى العمل. ثم قُبض على “قادة الثوار” وتم حبسهم.
 
أطرح عليه سؤالاً مختلفاً: هل سوهينال نادم على مجيئه إلى هنا؟ يخفض الرجال رؤوسهم جميعاً وينظرون إلى الأرض. “كيف عسانا نفكر في ذلك؟” نحن عالقون هنا ، وإذا بدأنا نفكر في الندم … يترك جملته تتلاشى دون أن يكملها. غير أن عاملا آخر يكسر الصمت ويكمل قائلا “إني مشتاق إلى بلادي ، وعائلتي وأرضي. في بنغلاديش نستطيع أن نزرع طعامنا. أما هنا فلا شيء ينمو ، سوى النفط والمباني.
 
منذ ضرب الركود الإقتصادي المنطقة ، يقولون إن التيار الكهربائي تم قطعه عن عشرات المخيمات ، ولم يتقاض العمال أجورهم لأشهر ، واختفت الشركات التي توظفهم ومعها جوازات سفرهم ورواتبهم. “لقد سرقوا منّا كل شيء. وحتى لو تمكّنا من العودة إلى بنغلاديش بطريقة من الطرق، سيطالبنا المقرضون برد أموالهم على الفور، وإذا عجزنا عن رد تلك القروض ، سندخل السجن.”
 
ينافي هذا الواقع القانون. فأصحاب العمل يجب أن يدفعوا لموظفيهم رواتبهم في أوقاتها ، وأن لا يجردونهم من جوازات سفرهم ، وأن يعطوا موظفيهم استراحة في هذا الجو الحار ، لكنني لم ألتق بأحد قال لي إن هذا ما يحدث ، لا أحد من هؤلاء الرجال الذين أُحتيل عليهم للمجيء إلى هنا ، ثم وقعوا في مصيدة بقوا فيها بتعاون سلطات دبي. 
 
من السهل أن يفقد ساهينال حياته هنا. أخبرني رجل بريطاني كان يعمل في مشاريع معمارية بأن عدد حالات الانتحار في المخيمات ومواقع البناء كبير جداً ، لكنه لا يتم الإبلاغ عنها. بل توصف على أنها “حوادث” ، وحتى مع ذلك لا تسلم عائلات المتوفين من عواقب موت أبنائهم ، فهم يرثون ديون أبنائهم أيضاً. لقد كشفت دراسة لمنظمة هيومان رايتس وتش المعنية بحقوق الإنسان وجود عمليات تغطية تُعتم على البُعد الحقيقي لحالات الوفاة الناجمة عن الإنهاك الحراري ، والعمل المفرط والانتحار ، لكن القنصلية الهندية لم تسجل سوى 971 حالة وفاة لمواطنيها في عام 2005 فقط. وبعدما تسرب ذلك الرقم ، صدرت أوامر للقنصليات بوقف الإحصاءات. 
 
يهبط الليل بعد مغيب الشمس جالسا في المخيم مع سوهينال وأصدقائه. يجمع كل واحد منهم ما تبقى بحوزته من مال لشراء زجاجة مشروب كحولي رخيصة الثمن. يجترعون محتواها على دفعة واحدة سريعة. “هذا ما يُخدر مشاعرنا” يقول سوهينال بينما يحمحم بحنجرته ، وفي الأفق البعيد تطل مدينة دبي البراقة التي بناها غير آبه بمحنته. 
 
ترجمة حسام مدقه. (جزء من مقالة طويلة بجريدة الأنديبندنت)
 
المصدر:
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=610723655651546&set=a.603269179730327.1073741828.587411404649438&type=1&theater

بواسطة راديو بيتنا

صوت المهاجر العربي من راديو بيتنا تأسس عام 2010 ويتخذ من مدينة وندسور بمقاطعة أونتاريو مركزاً له. ويُعنى بالشأن الفني والاجتماعي والاقتصادي في كندا والولايات المتحدة الأمريكية.