لمحات من حياة ماري منيب

ولدت ماري منيب في دمشق عام 1905 ، جاءت مع أسرتها إلى مصر وسكنت في حي شبرا بمدينة القاهرة ، وبدأت موهبتها الفنية في سن صغيرة ، كانت بدايتها كراقصة في الملاهي ثم بدأت حياتها الفنية في ثلاثينيات القرن العشرين علي المسرح بعد أن انضمت إلى فرقة الريحاني عام 1937 وتوالت أعمالها في المسرح والسينما وقامت ببطولة أفلام سينمائية عدة ، فاشتهرت بأداء دور الحماة التي تحاول التدخل بين ابنتها وزوجها فتفسد الأشياء ثم تنسحب عن حياتهما ، وظلت تعمل بالمجال الفني لخمسة وثلاثين عامًا.

البداية

تحكي ماري منيب قصتها فتقول: “في ضاحية من ضواحي دمشق ، وعلى مقربة من حدائق الغوطة الغنّاء ، كانت تعيش أسرتنا ، ونقيم في منزل صغير ، تحيط به حديقة صغيرة ، يملكه أبي ، سليم حبيب نصر ، الذي كان معروفا باسم الخواجة سليم. وكانت أسرتنا مؤلفة من أبي وأمي وشقيقتي التي تكبرني بعام ونصف .. وأنا.

وقد ورث أبي ثروة طائلة ، تضاعفت علي مر الأيام بفضل مهارة أبي في أعماله التجارية ، التي كان يمارسها بين القاهرة ودمشق ، وكان يمكن أن نظل أغنياء ، كما كنا ، لولا نزوة طلعت في دماغ أبي حملته علي المضاربة علي “كنتراتات” بورصة القطن في الأسكندرية ، وفي يقينه أنه سيصبح مليونيرا في أيام وجيزة.

كان يدخل المضاربات ، فتارة يرتفع إلى القمة ، ويربح في عملية واحدة عشرات الألوف من الجنيهات ، وتارة أخرى يهبط إلى القاع ، والإبتسامة لا تفارق شفتيه. وكان يقضي أغلب أيامه في القاهرة ، ولا يحضر إلىنا إلا أياما معدودة كل ثلاثة أو أربعة أسابيع.

وظل يسير علي هذا المنوال ، حتي جاءنا ذات يوم ، وقد شحب وجهه ، وزاغت عيناه ، واضمحلت صحته ، ليقول لأمي:

ليكي يا مستورة .. راح الربح والراسمال .. وصفينا طفرانين !

و” ليكي” في لغة إقليمنا الشمالي معناها “خدي بالك”، أما ” الطفر” فمعناه الإفلاس ، واللهم حوالينا ولا علينا .

واتضح لنا أن المضاربات مسحته تماما ، وخرج منها مدينا ببضعة آلاف من الجنيهات ، واتجه إلى أملاكه وأراضيه وبساتينها يبيعها بالثمن البخس ، ويجمع ما يصل إلى يده من المال ، ويعود إلى البورصة ، فيخسره ، ويرجع إلى دمشق خالي الوفاض.

وبعد الأملاك ، أتى على البيت الذي نقيم فيه ، وعلى المصوغات والمجوهرات التي تملكها أمي ، حتي أصبحنا ” يا مولاي كما خلقتني”. وسافر إلى القاهرة ، ومعه مبلغ من المال اقترضه من بعض معارفه ، وترقبنا عودته رابحا أو خاسرا ، ولكن توالت الشهور والأعوام ، دون أن نقف له على أُثر ، حتى المكاتبات لم يكن يرد عليها.

وجاءت إلينا إحدى قريباتنا ، وقالت لوالدتي:

ماذا تنتظرين؟ سافري إلى القاهرة لتعرفي ماذا جرى لزوجك ؟

وعملت أمي بنصيحة قريبتها ، فسافرت إلى القاهرة ، وصحبتني أنا وشقيقتي إليس ، وكانت سفرية شاقة علي ظهر المركب “الدك”، فوصلنا إلى الإسكندرية ونحن أشبه بالمرضي الخارجين لتوهم من المستشفي ! وقضينا ليلة بالإسكندرية ، وفي إلىوم التالي سافرنا بالقطار إلى القاهرة.

وفي القاهرة بحثنا عن أبي ، في المكان الذي اعتاد الإقامة فيه ، فعلمنا أنه ظل شهورا طويلة وهو مريض ، ثم سافر إلى دمشق في نفس اليوم الذي سافرنا فيه نحن إلى الإسكندرية. وفكرت والدتي أن تعود أدراجها إلى دمشق ، ولكن قبل أن تعد العدة للسفر ، وصل إليها خطاب ينعي أبي ، فقد وافته منيّته عقب وصوله إلى دمشق بثلاثة أيام.

هكذا توفي أبي دون أن نراه ، بل دون أن نشترك في تشييع جنازته ، ولم تجد والدتي أية فائدة من العودة إلى دمشق ، إذ لم يبق لنا هناك من نعوّل عليه في معيشتنا ، فقد أتى أبي على كل ما نملكه هناك ، ولم يكن لنا أقارب يمكن الاعتماد عليهم ، فاعتمدنا على الله وعلى أنفسنا.

واستأجرنا شقة أرضية صغيرة في حي بركة الرطلي بالفجالة كان إيجارها لا يزيد عن سبعين قرشا علي ما أذكر ، وأقبلت أمي تحاول أن تدبر أمر معيشتنا في بلد نعيش فيه بلا أهل ، ولا مال ولا جاه ! وعانينا أول الأمر من متاعب متعددة ، الحاجة والفقر والحرمان ، ثم لم تلبث أن فُرجت ، فقد كان أبي ، رغم استهتاره بالمال ، ورغم مرضه في أيامه الأخيرة ، يفكر فينا وفي مستقبلنا ، فأودع مبلغا من المال في بطريركية الروم الكاثوليك ، وأوصى بإنفاقه علينا بمعدل ستة جنيهات كل شهر ، إذا وافته المنية فجأة.

وتمكنت أمي بهذا المبلغ من تنظيم شؤون معيشتنا ، فألحقتني أنا وأختي إلىس بمدرسة دليفراند، ومقرها شارع حبيب شلبي ببركة الرطلي ، لقربها من المنزل. وعلى الرغم من ضآلة هذا المبلغ فقد كنا نعيش سعداء ، لا يكاد ينقصنا شيء ، ولكن لم ينقض عام واحد ، حتي أفادتنا البطريركية ، بنفاذ المبلغ المودع لديها.

ولم تستسلم أمي لليأس ، بل شمّرت عن ساعد الجد والنشاط ، وراحت تشتغل بحياكة الملابس لسيدات الحي ، وكنت أقوم أنا وشقيقتي بمعاونتها ، وظفرت أمي بالنجاح في هذه المهنة ، وأمكنها أن تجني ربحا يفي بحاجتنا المتواضعة ، وأحيانا يزيد فنرفّه عن أنفسنا بالذهاب إلى سينما ” المنظر الجميل” ، وكانت على بعد دقائق من المنزل ، وكان ثمن التذكرة في الدرجة الأولى خمسة عشر مليما “

خلال حياتها في القاهرة

… وكانت المدرسة التي التحقت بها تديرها راهبات خبيرات بأصول التربية والتعليم ، وكانت لهن وسائلهن الخاصة في مكافأة التلميذة المجتهدة ، ومعاقبة التلميذة البليدة ، فالأولى تمنح بعض قطع الحلوى والشيكولاتة، والثانية يوضع علي وجهها قناع يمثل رأس خروف لتسخر منها زميلاتها ، فإذا تكرر الذنب ، أضيف إلى هذا العقاب الجلوس علي الأرض عدة ساعات ، وأعترف ولا فخر أن قناع الخروف لم يكن يفارق وجهي ، وأنني لم أكن أقوم من جلستي على الأرض إلا لأعود إلى الجلوس عليها.

لم أكن أحفظ حرفا واحدا مما أسمعه ، كان مخي كالمصفاة ، بل ظللت حوالى سنة لكي أحفظ الحروف الهجائية الفرنسية ، ومع ذلك لم أوفق في حفظها إطلاقا. وصار قناع الخروف هو الوجه الطبيعي الذي أظهر به في المدرسة ، حتى غلب اسم الخروف على اسمي الحقيقي ، في البيت والشارع وكل مكان !!  وأخيرا استدعت كبيرة الراهبات والدتي للمدرسة لتقول لها :

احنا تعبنا مع بنتك ماري أكتر من اللازم لكن ما فيش فايدة ، دي مش ممكن تتعلم .. دي مخها خشب .. خشب .. خشب

وكانت تضغط على كلمة خشب ، وتؤكد بالضرب بقبضة يدها على المكتب الذي تجلس عليه .. وبكت أمي وتأثرت الراهبة فقالت تواسيها:

يمكنك أن تدربيها علي الحياكة ، أما تعليمها فمن المستحيل ، لن تتعلم وكل قرش يدفع في سبيل تعليمها خسارة .

وكانت أمي دائما تقول لي مش فاهمة الغباوة دي كلها جايباها منين؟!ولو سألتني هذا السؤال اليوم ، بعد أن خبرت الدنيا ، وعرفت الحياة لكان جوابي: إنها موهبة .. وسبحان العاطي !

وتركت المدرسة ، ولازمت المنزل ، وكانت فرحتي شديدة بهذه “الخيبة الثقيلة”. وكنت كثيرة اللعب مع بنات حارتنا اللاتي كن في مثل سني ، وحدث يوما أن شاهدت خناقة بين سيدة بنت بلد من ذوات الملاية اللف ، وبين سيدة إفرنجية تتكلم اللغة العربية بلكنة يونانية ، وقامت بنت البلد بفاصل ردح أضحك أهل الحارة جميعا ، كانت تفرد ملايتها وتطويها وتقول للخوجاية :

ياللا يا إبرة مصدية ، جنب الحيط مرمية ، يا مسلولة يا ناشفة يا عصاعيص النُقريّة ، ياحبل الغسيل ، يا ام منقار طويل !

إلى آخر هذا الموشح الذي كانت تحفظه جيدا سيدات كوم الشقافة وحوش بردق في ذلك العهد. وأعجبت بهذا الردح ، واستهوتني الطريقة التي كانت تردح بها بنت البلد ، علي الرغم من أنها كانت تتكلم بسرعة سبعين كلمة في الدقيقة ، إلا أن مخي الخشبي تفتح لها ، فحفظتُها عن ظهر قلب. ومن يومها ابتكرتُ لبنات حارتنا لعبة جديدة هي لعبة بنات بلد وخواجات ، وكلما لعبنا هذه اللعبة ، أسرعتُ أنتزع ملاية السرير ، وأقف بها ، وهات يا ردح ضد الفريق الذي يمثل دور الخواجات ، وكان المارة يقفون للفرجة علينا ، ويضحكون ملء أفواههم ، من هذه الشقية الصغيرة ، التي برعت في هذا اللون من الردح !”

(من مذكرات ماري منيب التي نشرتها مجلة الكواكب المصرية في الستينيات)

بواسطة راديو بيتنا

صوت المهاجر العربي من راديو بيتنا تأسس عام 2010 ويتخذ من مدينة وندسور بمقاطعة أونتاريو مركزاً له. ويُعنى بالشأن الفني والاجتماعي والاقتصادي في كندا والولايات المتحدة الأمريكية.